شبكة سورية الحدث


كم تليق بك الإحتفالات الدمويّة يا أيها الغريب..بقلم سليمان أيمن حمودي

كم تليق بك الإحتفالات الدمويّة يا أيها الغريب..بقلم سليمان أيمن حمودي

سورية الحدث

بعد يوم عمل طويل، مرهق، وممتع رغم ما حمله من صعوبات، تعود إلى المنزل، تدخل ملاذك وتغلق على مشقّات الحياة باب البيت، تستقبلك أسرتك الصغيرة، تحتضنهم فيحتضنك السرور. تلتفّون حول المنضدة مُحَاصِرين الطعام، وسعادة هذا الاجتماع الأسري الصغير.
تسمع أحاديثهم الطفولية وضحكاتهم البريئة، فتنسى ما قاسيت، تنسى تشنجات ساعديك، والألم في قدميك، تصير كأنك لم تعمل، كأنك لم تتعب، تصير وكأنك كنت طيلة النهار تمشي على الريش.
كلٌّ إلى فراشه بعد حفلة التقبيل، أخيرًا تنام أنت، لتعيد في الغد ذات الدورة من الألم والراحة.
تستيقظ في الصباح، لترى في الشارع أناسًا تعرفهم يرفعون شعارات لم تجمعك بها معرفة، ولم تسمع بها في مكان غير شاشات التلفاز، "حريّة...حرّية".
تكمل الطريق مشدوهًا بما رأيت، بما سمعت.
متى؟ لماذا؟ والسؤال الأعظم هو كيف... كيف تغيّر كلّ هؤلاء؟
أيام وأيام...
صرت تعود إلى البيت محمّلًا بالخوف بدلًا من الهدايا، تحتضن أطفالك بعنف، وتقبلهم بشراهة، لا ليس حبًا، بل هو خوف من أن يكون هذا اللقاء هو الأخير.
صرت الآن تصطحب خوفك إلى السرير، سريرك الذي ما عاد مكانًا للراحة، بقدر ما صار حلبة تصارع فيها قلقك ورعبك من المجهول.
أيام تمضي... يشبّ فينا الذعر، ويشيب الأمل. بلاد الخير صارت بيد الغير، صرنا نكافح لأجل غد يحتضر أمامنا، ولا قدرة لأحد منا على فعل شيء.
ذات يومٍ في العمل، شارد أنت في أعمدة الدخان، شارد رغم صوت القذائف والرصاص، صارت هذه الأصوات طبيعية، يصرخ الهاتف في وجهك: أفق.
غريب من خلف السماعة يناديك باسمك_ كم تمنيت لو أن هذا لم يكن اسمك _ تعال يا فلان...
تقف هناك، على غير العادة لا أحد في استقبالك عدا الدخان، والنار...
تقف هناك، أمام ما تبقى من باب البيت، مصدومًا بما ترى_أم تُراك كنت مصدومًا بمن لم ترى؟!_ ...
هذه على الأرض، دماؤك! كانت بالأمس تجري في عروق أبنائك...
كانت منذ قليل كذلك، والآن أيضًا هي تجري، منهم... على أرضيّة ما كان قبل القذيفة ببرهةٍ... بيتك.
هذه الدمية، أو بقاياها هي دمية ابنك ذو العامين وشظيّة.
وهذه الذراع الصغيرة هنا... هذه ليتها كانت لدمية.
واقفٌ هناك، لا تبكي ولا تتحرك، لا تصرخ وتكاد لا تتنفس...
تنفّس فهذا الدخان كلّ ما بقي لك من أسرتك، كلّ ما بقي لك من منزلك، دعه يتغلغل عميقًا في رئتيك... تنفّس. 

*جزء من العمر مفقود ... * 

أيام وأيام... نقترب من العام الحادي عشر. 
الآن، تبكي لأجل شخص ما، ليس لأنك فقدته، بل لأنك فقدت من ذاكرتك تفاصيل وجهه، أو لأنه أفرغ ذاكرتك من تفاصيلها، وما ترك شيئاً عدا وجهه، لتتذكره على الدوام.
فتبكِ لأنك لا تذكر شيئًا عدا هذا الوجه الوديع وما يصحبه من مشاعر دموية.
ما يؤذيك أكثر، هو أنك لا تعلم لماذا أنت تذكره، ألأنه يشتاقك وتشتاقه، أم أنه يقتصّ منك؛ لأنك يوم غادرت المنزل صبيحة ذاك اليوم لم تقبّله.
الآن، تجلسَ طويلًا، تتأمل في انعكاس صورتك على الزجاج، يضربها المطر بشدّة من الخلف، ويسرقها منك البرق أحيانًا، تجلس طويلًا، وتدمع لأنك ربما نسيت اسمك.
وتبكي لأجل أشخاص خبّأتَ في حقيبة سفرك أشياءهم، أصواتهم، خبّأتهم جيدًا، تبكي لكنك نسيت حقائبك في المحطّة، ونسيتهم فيها.
ولم يبقَ لك منهم سوى صور صغيرة، سرقتها عن مائدة الحريق يوم اقتحم صاروخ طائش منزلكم.
الآن، على غير هدى تمشي هنا، بكامل أناقتك باذخة الحزن. لاستقبالك يعزف الطريق موسيقاه الجنائزية، وتنتفض الحجارة مواساة لك، فتركلها... وتمضي إلى حيث لا تدري، أنت الآن تمشي وأنت كلّك، بجسدك الهزيل المرهق، بصوتك الذي يكاد يختفي، بأنفاسك اللاهثة واضطراب ضربات قلبك، باسمك الذي مذ ذاك اليوم تمنيته لو لم يكن اسمك، تمشي وأنت كلّك صرت التجسيد الحيّ لكلام فيروز "زاهدًا فيما سيأتي، ناسيًا ما قد مضى"، كم تليق بك الإحتفالات الدمويّة يا أيها الغريب.

سليمان أيمن حمودي

التاريخ - 2021-12-13 2:47 PM المشاهدات 2484

يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرامانقر هنا


الأكثر قراءةً
تصويت
هل تنجح الحكومة في تخفيض الأسعار ؟
  • نعم
  • لا
  • عليها تثبيت الدولار
  • لا أعلم