شبكة سورية الحدث


الوصية و ما بعدها..بقلم ليلاس سحلول

الوصية و ما بعدها..بقلم ليلاس سحلول

سورية الحدث الإخبارية

|| الوَصيّة وما بَعدها ||

في أحياء روما القديمة فتاةٌ تبلغ من العمر تسعة عشر اقحوانة تدرس في كليِّة الفنون الجميلة قسم النَّحت ورثت هذه الموهبة من والدها جورج ابن السَّماء الذي لم يُسبق لها أن تراه فقط توفي أثر جرثومة خبيثة تخلَّلت في دمهِ وهي في سنِّ الثانية ،كانت وصيَّته الأخيرة أن تكمل ابنته في هذا المجال
لم يكن حلمها لكنها رضخت لتلك الوصيَّة التي استلمتها من أمِّها بالآونة الأخيرة ..
بقيت اليزابيت تحافظ بكتمانها عن عشقها للعزف على آلة البيانو ،تخرج من المنزل لقاعة العزف متسلَّلة خشيةٌ من إمتعاض والدتها 
استمرَّت على هذا الحال وقتٍ طويل، لم تخبر  أحد بسرِّها حتى صديقتها المقربة منها..
ولكن في يوم من الأيَّام الباردة خرجت من منزلها الكئيب وفي قلبها بركانٌ كاد ينفجر في لحظة ما..تخطو خطواتها بسرعة ملقيةٌ وراؤها وشاحها الأسود الذي كان لأبيها 
تثرثر بغضب
_لماذا يا أبي فعلت هذا بي؟
_ألا تراني الآن مختبئة بقوقعة الكذب والخداع على كل من حولي؟
_سامحني لعلَّك ستشعر بابنتك قليلاََ وأنت بين أيدي السَّماء 
عادت خطواتها إلى الوراء ملتقطة الوشاح لتزيل دموعها التي أغرقت وجنتيها مكملة طريقها إلى قاعة العزف 
ترتوي بعزف سينفونية تعبَّر عن حزنها مفرغة الطَّاقة السلبيَّة التي تدفنها وراء ابتسامة صغيرة،ولكن صديقها في القاعة لامس أنينها بطريقة غير مألوفة فأرادَ الاقتراب منها محاولاً فعل ما بوسعه ليراها بخير ..
انتظر لتنتهي من العزف ويتكلَّم معها لكن ما إن انتهت خرجت مسرعة ولم تنتظر حتى سماع رأي  أستاذها والحضور 
اندهش مارسيل من تصرفاتها التي تثير قلقه بشدّة وبلّلا وعي أخذته قدميه نحوها..  تثبَّطت خطواته عندما بدأ يسمع صوت شهقاتها فقد كانت كل شهقة تؤذي قلبه وكأنَّها جزء منه ،لم يكترث للأمر أكثر من محاولة تهدئتها 
اقترب نحوها ماسكاً بيدها الصغيرة ولكن لوهلة تهيّأ لها بأن تكون والدتها ،قبل أن تلقي النظر اعترفت بكل شي  ..
تجمَّد مارسيل في أرضه ولم يتفوَّه بكلمة وحين ألقت النَّظر إليه احمرَّت خجلاً أفلتت يده وهي تقول 
_ألا تمتلك لساناً يتكلم ؟
لم يجيبها بشيء
اكتفى بالنظر لعينيها التي تحاول اضمارها ..اعتذرت منه وأكملت طريقها ولكن سِمَة الرهبة لازالت ترافق وجهها الذي انخطفت ألوانه ومنذ ذلك اليوم لم تعد اليزابيت تذهب لدروس العزف ،انقطعت أخبارها عن مارسيل فهو بالكادِ يعرف اسمها، لم تدرك اليزابيت مدى خوف مارسيل عليها وازداد أكثر عندما أخبرته على محض الصدفة الأمر الذي تخفيه عن والدتها 
أخذت الأفكار الجشعة تدفّق بمخيّلته أكثر فأكثر 
_أَهلْ يعقل أن تكون والدتها السبب ؟
_أمْ هي في حال سيَّئة الآن ؟
كان من الصَّعب عليه أن يبقى مكتوفَ اليدين سجينٌ  لأفكارهِ ،خرجَ يبحث عنها في الأرجاء لعلَّ يصدفها لكن لا أثر لها حتَّى في ذاك الحيّز الذي أوقفها فيهِ للمرَّة الأولى ..عادَ فاقد الأمل من العثور عليها ، وباتَ تائهاً باحثاً عن نفسه بشخصٍ آخر 
  لم يتوقع كلَّ هذا الحب يكون لفتاةٍ لا يعرف عنها شيء..
مضى على هذا الحال أسابيع ،إلى حين خرج يتسكُع مع أصدقائه ويخفِّف عن ذاته ولكن لا شكَّ بأنَّه لازال قلق ،سألته صديقته عن حاله فأخبرها ما حدث في تلك الليلة 
ضحكت وهي تقول
_لدي صديقة حالها يشبه صديقتك غريبة الأطوار ولكن الفرق ما بينهما صديقتي اليزابيت لا تملك موهبة العزف
عندما تلقى حديثها باتت البسمة تملأ ثغره.. لم يخبرها بشيء سوى أنه سيكون مسرورٌ إذا تعرَّف على صديقتها ،بادرته بابتسامة قائلة _اليزابيت ستكون مسرورة بوجود شخصٍ مثلك.
اتفقا على موعدٍ للزيارة وحين قابلت اليزابيت الضيف ارتعشت خوفاً حاولت السيطرة على حالها قليلاً نظرت لصديقتها لم تشعر بأنها مدركة ،تعاملت معهم بلطف وتبادلا الأحاديث المضحكة وبطريقة ما سألها مارسيل ماذا تدرس أجابت صديقتهما عوضاً عنها .في هذه اللحظة تأكدت اليزابيت بأنه حفظ سرِّها
 عاد وسألها عن سبب اختيارها هذا القسم أجابت أمها بإمتعاض
هي تحب النَّحت وأبيها المبدع أرادَ هذا أيضاً لو لم تعانق روحه السماء لأدركت اليزابيت مدى فخره اتجاهها..
اكتفت اليزابيت بالصمت وخفَّت الضحكات التي كان تغطِّي الجدران وعندما غادرت أمّها الجلسة لتحضر العشاء  رنَّ هاتف صديقتهما وفي حين الجميع يلهو اقترب منها معتذراً عن الإحراج الذي سبَّبه لها
_لم أجد طريقة أخرى  أتيت إلى هنا وأنا متأكد بأنَّ اليزابيت هي صديقتي في العزف
 هل من الممكن أن تجيبينني عن عدم قدومك للقاعة وعن الخوف الذي أخلقتيه في قلبي طيلة غيابك ؟
 لم تمتلك ردّ
وحين عادت صديقتهما تحدثت بصوت عالٍ 
_سأكون بانتظارك عند الساعة العاشرة صباحاً أمام باب الكليّة ،كن متفرغاً .
............
2
|| الوَصيّة وما بَعدها ||
............
عندما أسدل الليل ستاره يخيَّم  في الأزقَّة يعود مارسيل إلى أرشيف الجلسة تذكر وجه والدتها انفعالها من سؤاله 
بدأت التساؤلات تثير شكَّه حتى مطلع الضوء لدرجة غاب عن ذهنه موعده مع اليزابيت 
اتصل بها متأسفاً وعندما أدرك بأنها لا تتواجد بالمنزل قرر الذهاب ليقابل أمِّها بحجّة استعارته كتابٍ من كتب أبيها جورج ،استقبلته بالترحاب وأخذَ كتاب بشكلٍ عشوائي وبدأ بطرح الأسئلة عليها بطريقة المزح كانت تجيب وهي مسرورة بأنَّ ابنتها الوحيدة لديها صديق مهتمَّاً بأشياء متعلقة بجورج  وحين أتت اليزابيت رأته في المنزل 
استغربت تواجده من غير موعد لكن أحضرَ مارسيل تبريراً قبل أن تسأل
_لم أحضر لموعد لقاؤنا فأتيت أستعير كتاباً وأنتظرك لنخرج في موعدنا العشائي الأول مع مشروبٌ من النَّبيذ ونكوِّن رقصتنا الأولى على موسيقا كلاسيكيَّة هادئة
لم ترفض الدعوة صعدت لغرفتها تحضّر نفسها وترتدي فستانٍ خمريّ اللون مع أقراط ناعمة وخصلات الشعر تسقط بشكلٍ لطيف على وجهها وحين انتهت قابلت مارسيل ك نجمة سقطت سهواً من السماء إلى عينيه لتبقى في داخلهم..  
اقترب منها وأخبرها بصوت خافت عن جمالها بالفستان الخمري ودَّعت أمِّها وعند وصولهما إلى الباب طلب منها وصيَّة أبيها من غير أن تشعر والدتها عادت للغرفة بحجة نسيانها هاتفها 
سألته عن سبب أخذها منها فأجابها 
_أخبرتني والدتك بجمال خط والدك أردت رؤيته لا أكثر
_ولكن يا مارسيل في هذه الوصيَّة والدي لم يكتبها بخطِّ جميل
نظر للورقة ولاحظ بأنَّها ليست عتيقة ولقد مضى على وفاته سبعة عشر عاماً وغير ذلك لا يتطابق مع الخط الموجود في الصفحة الأخيرة من الكتاب 
أعاد لها الورقة وهو مدرك بأنَّ الوصيَّة كانت كذبة ألَّفتها والدتها وما فعلته ليبقى أثر جورج موجودٌ داخلها ،اكتفى بالتكتُّم اتجاه الوصيَّة واعداً نفسه بعدم البوح بهذا السر مراعياً مشاعر والدتها أمام ابنتها ومشاعر اليزابيت التي خطفت قلبه ..
 نظرت إليه وهي تشعر بأنَّه يخفي أمرٍ ما عنها فاعترف بعشقه في منتصف سماء العاصمة الباردة والقلوبُ دافئة 
كانت كذبة أوفت بولادة عاشق 
بقي مارسيل ممنوناً لتلك الوصيَّة التي جمعته ب اليزابيت راسمين مشهد يصدع الحاضرين برقصتهما الأولى مع النَّظرات التي يتبادلانها بلطف لتخرج من ثغرِ اليزابيت ألطف الكلمات ..
ستكون معزوفتي الخاصة وصداها يترتَّل في قلبٍ انتفض حبَّاً بك منذ ملامسة يداك يديّ ب ليلة ممطرة.
#ليلاس_سحلول

التاريخ - 2021-12-25 11:50 PM المشاهدات 2773

يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرامانقر هنا


الأكثر قراءةً
تصويت
هل تنجح الحكومة في تخفيض الأسعار ؟
  • نعم
  • لا
  • عليها تثبيت الدولار
  • لا أعلم