«وطني مجروح.. وأنا أنزف.. خانتني حنجرتي فاقتلعتها.. أرجوكم.. لا تخونوا وطنكم». بهذه الوصية الوطنية، ترك لنا الفنان الراحل نضال سيجري، إرثاً فنياً كبيراً نوعاً وكماً، لينهل منه كل عاشق للوطن عموماً، وللدراما السورية على وجه الخصوص.نضال سيجري من مواليد اللاذقية 1965، وهو خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، شارك في الكثير من الأعمال المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، نذكر منها في المسرح: كاليغولا، ميديا وجيسون، السفر برلك، شو هالحكي، شوية وقت، آواكس، الغول، نور العيون، ونيغاتيف وغيرها. وفي السينما: زهرة الرمان، الترحال، خلف الأسوار، العريضة، خارج التغطية، الطحين الأسود، سيلينا، طعم الليمون، وغيرها. وفي التلفزيون شارك سيجري في أكثر من 80 عملاً تلفزيونياً نذكر منها: القلاع، رمح النار، الأيام المتمردة، العبابيد، غزلان في غابة الذئاب، بقعة ضوء، قلبي معكم، مرسوم عائلي، أهل الغرام، الخط الأحمر، الزير سالم، الخربة، وضيعة ضايعة وغيرها.نضال ومن المشهد الأول، قدم نفسه مؤدياً بارعاً وذكياً ومتفرداً لأي دور يوكل إليه، وهو أول من أدخل اللهجة اللاذقانية إلى التلفزيون، لافتاً النظر إلى جمالية لهجاتنا المختلفة و«هضامة» مفرداتها، سيجري الذي كان في كل دور يؤديه، خفيف الظل، مقنعاً، وسهل التلقي، مهما كان دوره تراجيدياً، أثبت في فترةٍ قصيرة، أن الفن ليس أداءً وحسب، بل هو مزيج متوازن من الفطرة والعشق والتمكن والتدريب.تشارلي شابلن العربتشارلي شابلن العرب، كما يحلو للبعض أن يسميه بعد أدائه دور (أسعد خرشوف) في «ضيعة ضايعة»، نقل الكوميديا إلى مستوى جديد، لم تشهده أو تصل إليه الدراما السورية من قبل، فصَنَع بالتعاون مع شركائه المبدعين باسم ياخور والكاتب د.ممدوح حمادة والمخرج الليث حجو ومجموعة من فنانين آخرين، عملاً كوميدياً ارتقى ليكون في قمة هرم الأعمال الدرامية والكوميدية السورية، ومازال حتى الآن يتربع على عرش الدراما السورية في رأي الكثيرين.البساطة وعفوية الأداء، والذكاء في ردّات الفعل السريعة والمتمثلة في أبسط تعابير الوجه وايماءات الجسد، أدوات نقل فيها سيجري المشاهد السوري إلى مستوى جديد، صار من الصعب عليه تقبل ما دونه، أو الاقتناع به.دوره الصامت في مسلسل (الخربة) الذي جاء بعد استئصاله حنجرته بقرابة العام ونصف العام، أثبت فيه سيجري مجدداً أن الفن شغف وحب وجهد وتضحية، وليس فقط ترديداً ببغائياً لنص مكتوب أمام الكاميرا، ففي دور (نعمان) اللص العائد من المغترب، لم يأخذنا سيجري إلى لحظة شفقة أو تعاطف مع وضعه، بل على العكس، بيّن لنا أن مرض الإنسان هو مرضُ الروح والأخلاق والضمير، وليس أي شيء آخر، ومجدداً أبهرنا سيجري بأداءٍ أخير، لم نشكّ أثناء متابعته للحظة في أنه فعلاً نصّاب، ربما يمثل علينا عدم قدرته على الكلام، كإحدى أدوات نصبه لا أكثر، وإذ بسيجري يحافظ على تألقه وإبداعه وأدائه الاحترافي، من دون الحاجة إلى النطق بأي حرف.الدور الثاني الصامت له كان في مسلسل «بنات العيلة»، وشارك سيجري في العمل الاجتماعي من خلال شخصية (كمال) الفنان التشكيلي الذي تغلب عليه صفات الرومانسية والشاعرية، الممثل السوري الذي فقد صوته في الواقع إثر استئصال حنجرته، فقده أيضاً في المسلسل، إذ إنّ (كمال) أجرى عملية جراحية في حنجرته، وفقد صوته، لتهجره إثر ذلك زوجته الأجنبية التي قررت العودة إلى بلادها، بعدها، يلتقي سيدة أخرى بالمصادفة فيُعجب بها وتتطور علاقتهما إلى حميمية يتخللها الإعجاب والاشتياق والحنين، لكن الظروف الاجتماعية التي تحيط بالسيدة تدفعه إلى الانسحاب من حياتها حتى لا يسبّب لها أذى في علاقتها مع أسرتها ومع محيطها.تكريم مسرحيعاشق المسرح الذي لم يتخلَّ عن «مرباه» الأول رغم الشهرة التي تعدّ غاية وهدف كل فنان، جرى تكريمه خلال افتتاح مهرجان المسرح الجامعي الذي أقيم في طرطوس عام 2011، حيث عُرضت مسرحية «نيغاتيف» التي ألّفها وأخرجها أيضاً، وعبّر وقتها عن سعادته بهذا التكريم، وأشار إلى أنّ الفن المسرحي يجسد لغة التواصل والتعبير عن ثقافة الأمة وحضارتها من خلال الإبداع الفني الأصيل، وأن أهمية الثقافة والفن تأتي من معالجة الفن المسرحي لقضايا الإنسان وهمومه اليومية، إضافةً إلى التعبير عن تاريخ الحضارات.ترك سيجري بصمته المهمة عبر الأعمال التي قدمها في المسرح والسينما والتلفزيون، التي ما على صناع الدراما إلا تحليلها وقراءتها، وفهمها وتحويلها إلى عمل جاد للنهوض مجدداً بالكوميديا السورية والارتقاء بها إلى مستوى يقارب ضيعة ضايعة والخربة، قبل أن تهدمها أعمال مثل (سليمو وحريمو) وغيرها.الذكرى الثالثة للرحيل «ثلاث سنوات حزينة مرت على رحيل من رسم الفرح في قلوبنا» هكذا استقبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذكرى الثالثة لرحيل أيقونة الكوميديا السورية، الذي تمنى الموت قبل دقائق من استقبال عام 2013، إذا لم تستعدْ بلدُه عافيتها، ويستعد أولادها محبتهم وألفتهم، قائلاً على حساب الفيس بوك الشخصي: «بعد قليل، سيغادرنا عام مملوء بالدم والموت والجنائز والقهر والخوف والحزن والحرمان، سيغادرنا عام مملوء بالبشاعة والنفاق والذل والانتقام والثأر والتحريض، سيغادرنا عام تداخلت فيه الأحلام بالكوابيس، بعد قليل سيغادرنا عام كبر به كل مواطن سوري عشرة أعوام أو أكثر، بعد قليل سيغادرنا عام مملوء بالسرطان الخبيث اللئيم، سيغادرنا ويترك في أعناقنا أمانة الدفاع عن أمنا العظيمة، وعن بعضنا البعض، وعن أرواحنا وعقولنا وضمائرنا، بعد قليل ستزداد الصرخات بأن البلاد هي أولاً وثانياً وثالثاً.. وستصرخ البلاد بأنها لن تقبل بطرف دون آخر.. ولن تحيا إلاّ بحضور الكل».وختم سيجري كلامه بطلب الموت لو لم تتحقق أمانيه فقال: «بعد قليل سأحلم بأنّ كل السوريين سيبدؤون بالعمل معاً لإعادة البناء.. بعد قليل إذا لم تخرج بلادي من وجعها، سأتمنى الموت وأغادر مع هذا العام البائس المملوء بالسرطان، تحيا سورية بكل أبنائها».نضال الإنسان قبل أن يكون الفنان، والذي نفذت عائلته وصيته بأن يسجى جثمانه على خشبة المسرح في المشهد الأخير قبل أن يسدل الستار على حياته المملوءة بالعطاء، ترك قبل الرحيل أثراً إنسانياً كبيراً وعميقاً في كل من مرّ بهم يوماً، حتى لو لم يره بشكل مباشر، فطيبة قلبه وإنسانيته وتواضعه وغناه الأخلاقي والفكري، حفرت اسمه في قلوب السوريين والعرب، فلا تكاد تحين ذكرى وفاته، أو يوم ميلاده، حتى يرفع السوريون صورته على صفحاتهم الشخصية، مترحمين على روحه النقية الصافية، وقلبه الطاهر المحب، ومرددين وصيته الوطنية.سيجري حَمَلَ رسالة الحب والتآخي والتعاضد، وحمَّل الأجيال بعده رسالةً يحتاج فهمها إلى قدرٍ بسيط من حب الوطن، والارتقاء بالإنسانية في وجه التفرقة والطائفية والإرهاب، رسالة حب كانت وستبقى تكرر كل عام مرتين، في ذكرى وفاة نضال سيجري وفي ذكرى ميلاده، ليتحول هذا الفنان الجميل إلى أيقونة حب، علقت على جدار الدراما السورية، التي أصبحت أحد أهم أوجه الثقافة السورية، والتي نتمنى، كرمى لروح نضال، أن تنهض وتستعيد عافيتها، كما سورية الوطن.تشرين
التاريخ - 2016-07-16 5:29 AM المشاهدات 3012
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا