خاص الفن .. الخارجُ من إطار اللوحة إلى فضاء الحرية .. هو محبة .. وسلوك إنساني راقي .. ومساحة سلامٍ حقيقيرسمتُ على قمصاني رغم ندرةِ القمصان .. لم أدع شيئاً لم أرسم عليه ..من خلال الفن تُعلن حضورك كإنسانٍ على مسرح الحياةأنا المحارب الذي أحببتُ أن أقفَ على الحياة .. أُناكفها .. وأشاغب على حضورها .. حتى أحضركرّهتُ الفقر عيشه .. وملّ مني .. حياتي لم تكن سعيدة .. ولكن تخلّلتها لحظات فرحٍ مسروقةالفقر يحتاج إلى وعي وهدوء ومثابرة وجهدٍ مضاعف حتى لا يأخذنا إلى مسالب أخرى في الحياةأخاف من الجوع .. لأنّ الزمن أغبر .. ولا ضمانات فيهما زلتُ مغترباً .. ووطني بداخلي لا يغادرني .. ويصعبُ عليّ توصيف ما به اليوم ..الأزمة قوّتنا بقدر ما أنهكتنا .. المهم أن يعود الوطن .. ونحن متفائلونلا معالم واضحة للفن التشكيلي في سورية إلى أين هو ذاهب .. والقائمون عليه ديكتاتوريونالفنانون التشكيليون السوريون في وضع مادي وإنساني مُزري .. فماذا يفعل الاتحاد ..؟ ولماذا لا يقتني لوحاتهم ..؟!إن لم يكن القطاع الخاص شريكاً حقيقياً فلن ينهض الفن التشكيلي في سورية ..المدارس الفنية صارت عقيمة .. فضاء الفن أوسع .. وبالحرية فيه تجد أعمالاً عبقريةهناك خيط سري رفيع يشدُّ روحنا من المرأة إلى الموسيقا .. والعكس صحيح .. وطني.. يا جبل الغيم الأزرق .. وطني.. يا قمر الندي والزنبق ..يا وجوه الـ بيحبّونا.. يا تراب اللي سبقونا.. يا زغيّر ووسع الدني.. وسع الدني يا وطنيهذه الأغنية الرائعة للسيدة فيروز، هي ذلك المفتاح الذهبي، الذي يفتح لنا الأبواب، للإطلالة على صوت الفنان السوري العالمي .. الدكتور سهيل بدّور، فقد وضع هذه الأغنية كنغمة رنين لجهاز هاتفه النقّال، فتجعلنا مستمتعين ( بسوناتا الانتظار ) هذه، والتي سرعان ما تُعطينا هوية هذا الفنان التشكيلي الراقي .. وكيف يكبر ويكبر الوطن بقلبه ..؟ وكيف صار في عينيه جبل الغيم الأزرق ..؟ وقمر الندي والزنبق ..؟ وكيف يراه غنياً قوياً يساوي الدنيا كلها .. ؟هكذا شعرت وأنا أتصل معه لإجراء هذا اللقاء، وقلتُ في نفسي سأعرف منه لماذا وضع هذه النغمة .. من أجل الوطن ..؟ أم من أجل فيروز ..؟ أم من أجل الدلالة عليه شخصياً ..؟ أم لشيء آخر ..؟وطني منصة روحيالتقيت هذا الفنان الحالم والعنيد .. وسألته عن مرامي تلك النغمة فعلاً فقال:قبل كل شيء وطني هو منصة روحي الأبدية، رغم أنه أوجعني بما فيه الكفاية، وأتخمني وجعاً، ولكن لم يكن قاصداً ذلك.. ربما بتركيبة بعض الأوطان الوجع، فأي أمر هناك فاصلٌ فيه، إلا وطني وعرضي وكرامتي، فلستُ مستعداً أن أبقى طوال عمري أبحث عن أعذارٍ إذا كنتُ سأخون هذا الوطن ..وطني أسمى من فيروز – يقول الفنان سهيل بدور – رغم أنني أحبها دون شك، وأي ذرة غبار في وطني .. هي سوناتا فرحٍ لروحي .. لا أستطيع أن أخرج من هذا الموضوع .. ولا أريد.ويردف سهيل : من الصعب توصيف الوطن، ولا أحد قادر على توصيفه، يشبه الخلجات التي لا تُفكّك .. ولا تُقرأ جيداً ..•وسألته : يعني ماذا تريد أن تقول لمن يتصل معك عند سماعه لهذه النغمة ..؟قال : بالضرورة أنا مغترب، وفي هذه الأزمة تعرّضنا لمواقف كثيرة، وأريد من الاتصال الأول أن يعلم المتصل بأنني ( وطنجي ) بامتياز .الوطن لا يغادرني•وسألته : ما هذه المواقف ..؟ هل عُرض عليك الوقوف ضد الدولة مثلاً ..؟قال : نعم هكذا .. عُرِض عليَّ الوقوف ضد الدولة، وقالوا لي بأنّ هناك تغيير وحرية وديمقراطية، أرادوا أن يستثمروا زعلاً معيّناً، ولكن لم .. ولن يُفلحوا، رغم أنني غير متطلّبٍ من هذا الوطن، وحريٌّ بي أن يبقى وطني بداخلي دائماً.. ولا يغادرني.•أما زلتَ مغترباً ..؟ ثم لمن هذا البيت الجميل ..؟ أهو لكَ ..؟ أم مستأجر ..؟ أم ماذا ..؟( هو في بيتٍ جميل جداً وهادئ، على الرغم من أنه بجوار سوق الشعلان الشهير بدمشق، أرضيته رخامية معشّقة بزخرفاتٍ ذهبية اللون، الجدران مزيّنة بلوحاتٍ تشكيلية مدهشة، وبصدر غرفة الجلوس لوحة كبيرة رسمها بأنامله لصورة أمه .. التي قال عنها في أحد لقاءاته بأنها : هي ملاذي الأول والأخير، هي شمسي الأبدية وستبقى .. ولغاية الآن أنا أتغالظ عليها وأُشاغِب عليها، وعندما أنام أحبّها أن تنام إلى جانبي قليلاً وأضع يدي على صدرها )نعم .. مازلتُ بحالة اغتراب.. أدمنتُ الغربة، وأنا هنا زيارة، وأدمنتُ آليّة وجعها .. ونعم هذا بيتي .. ملكي .. وهو وطني الجميل .. ومنه أصعد إلى وطني .دكتور سهيل .. مَنْ أنت ..؟ كيف تعرفنا عن نفسك ..؟ وكيف استطعت عبور مستنقع الفقر إلى هذا الميدان العالمي الرحب ..؟أنا سهيل .. هذا المحارب الذي أحببتُ أن أقف على الحياة، أُناكفها إلى الأخير، وأشاغب على حضورها.. حتى أحضر عليها جيداً بكثيرٍ من السلام، الذي كان صعباً أن نجده في البدايات، باعتباري كنتُ أبحث عن رغيف الخبز، كما كان قلقي لأن أَصِلَ .. الآن أقلق على أن أنالَ هذا السلام .. ولم أنله .لماذا ..؟الحياة لا تتحمّل سلاماً بكل صدق .. ولا نسبياً .. حتى بشكلٍ شخصي إيقاع الحياة صعب، مِراسها صعب، الناس ليسوا بالسهولة التي نحن ندّعيها، خاصة نحن من بيئاتٍ لم تُسئ تربيتنا .. ولكن لم تحسنها.أكثر مرحلة أعيش فيها سلاماً، والمرحلة الملكيّة من عمري هي الآن، ولكن كان الثمن غالياً جداً جداً .. الثمن عمري ستين سنة .. فقرٌ وألمٌ وجوع، وترحال وغربة شاملة بكل أشكالها.. ومن الصعب الدخول في التفاصيل.إلى أين اغتربتَ .. وكيف ..؟اغتربتُ إلى دبي .. وأمريكا .. وسويسرا ، ولكنني زرتُ 42 بلداً في العالم، وفي أمريكا درّستُ في ولاية نبراسكا، في مدينة ( أوماها ) حيث درّستُ هناك الفن التشكيلي في جامعة ( كريتون ) وقد أوصلتني الصدفة إلى تلك الجامعة إذ كنتُ أقيم معرضاً دائماً في أحد الأماكن في دبي، تلقيتُ دعوة من المركز العالمي للفن الآسيوي، والذي مقرّه في ولاية نبراسكا، الدعوة كانت لإقامة معرض، و ( وورك شوب Workshop – ورشة عمل ) للفنانين، وطبعاً هم غامروا عندما دعوني، لأنّ فكرتهم عن الفن العربي هو زخرفي، أو تزييني فقط، ولكن بعد إقامة المعرض دُهشوا بأعمالي، ومن ثم قُدّم لي عرض أن أدرّس في تلك الجامعة، وقد حصل ذلك فعلاً، وبقيت ثلاث سنوات متواصلة.أما في سويسرا فقد دعتني جمعية أهلية، لإقامة ورشات عمل للسيدات في المنازل، وهناك اشتغلتُ على شيء اسمه إعادة التدوير ( ريسايكلنك – Recycling) أي إقامة عمل فني من النفايات، وبقيت فترة طويلة هناك تصل إلى ثلاث سنوات أيضاً، فيما استمرت الورشات من ست إلى سبع سنوات، غير أن المستقر كان في دبي، لقد أعطيتُ محاضرات كثيرة، ومللتُ من التدريب، أقيم ورشات عمل خاصة لفنانين، على سبيل تطوير المهارات، وكنت صاحب كاليري في دبي .. كاليري للعرض، وإقامة كل الفعاليات الممكنة.. المهم لقد كرّهتُ الفقر عيشه، هو ملّ مني، الفقر يحتاج إلى وعي وهدوء ومثابرة، وجهدٍ مضاعف، حتى لا يأخذنا إلى مسالب أخرى في الحياة.لقد قررتُ أن لا يأخذني الفقر إلى هناك.. إلى ذلك المسار الخطير من الحياة، وبحكم فقرنا أحببتُ الذهاب لإعلان حضوري على الحياة، كنتُ أعزف الموسيقى، وأغني، ومثّلتُ على المسرح، بدأت بمسارح الشبيبة وحفلاتها، إلى أن عملتُ مع يوسف حنّا أول عمل، وكان اسمه ( المُهرّج ) للماغوط، ثم عملتُ مع زيناتي قدسية، وجواد الأسدي، وكلها كانت أعمالاً مسرحية.أما في التلفزيون فقد عملتُ أيضاً، وهناك اشتغلتُ أعمالاً أظنها تافهة، ولكن كان عندنا رغبة أن نُشهر ونُعرف .. التلفزيون مرض.كما كتبتُ الشعر باكراً جداً، أنا قارئ جيد، والشعر يُثيرُ بهجتي من الداخل، كان لي في البداية أعمال شعرية خجولة، ومرة قلتُ لممدوح عدوان في إحدى الجلسات: سأقرأ لكَ شعراً، فقال : إذا شعرك أقلّ بذرّة من أعمالك الفنية .. سأنتفُ لكَ شواربك .. ولكن بعد أن قرأتُ له أول مرة، وبحضور علي الجندي، قال لي ممدوح : لابأس .. اكتب شعراً.كان الشعر عمودياً .. أنا أتحسّس الكلمة جيداً.. والحالة جيداً.•يعرفونك .. ويميزون فنّكَ بمزج الموسيقى مع الأنثى .. كيف توفِّق بين الموسيقا والأنثى ..؟ وهما يبدوان حالتين متناقضتين ..؟ فجمال الموسيقا من خلال سماع تلك الألحان الشجيّة التي تخاطب الروح وتحرك المشاعر السحيقة.. أما جمال الأنثى فيكون من خلال السماع والرؤيا .. ومن خلال تحسسها أيضاً .. أي هنا جمال مادي، وهناك في الموسيقا جمال معنوي .. فكيف وفّقتَ بين الحالتين ..؟ وما القاسم المشترك ..؟القاسم المشترك بين المرأة والموسيقا، أنهما يلتقيان على نصِّ الروح، فالروح نصٌّ بالنسبة لي، ثم فإنّ الموسيقى أنثى أيضاً، أنا وأنت نسمع موسيقا دائماً، وننسجم معها أكثر عندما تكون هناك في الذهن امرأة مُفترضة أصلاً، ربما يكون هناك خيط سرّي رفيع، يشدُّ روحنا من المرأة إلى الموسيقا .. والعكس صحيح ..•كيف خاطبتَ الفقر في لوحاتك ..؟ وكيف خاطبتَ حالة الوطن اليوم ..؟الفن التشكيلي حالة تَرَفيّة، حتى لو عالجت الفقر على اللوحة، ستبقى نخبوية، وتَرَفيّة، ولكن دعنا نقول الحالة : أحد الفنانين العظام كان دوماً يرسم لوحاتٍ عن الجوع والبرد، فأطلعها على فنان عظيمٍ آخر، فسأله : أنت جعت ..؟ قال : لا .. ثم سأله : هل بردت ..؟ قال : لا .. فقال له : عندما تجوع وتبرد وقتها تعرف رسم الجوع والبرد، فالتجربة الإنسانية دلّلت على المعاناة، فلا يشعر بحقيقة المعاناة إلاّ من يُعانيها.• فان كوخ – مثلاً – كان مبدعاً وأذهل العالم بلوحته ( آكلو البطاطا ) واستطاع أن يُعبّر عن الفقر بطريقة مدهشة ..ولكن فان كوخ كان يعاني .. وكان فقيراً .. على كل حال فإن كل ما أُحطتُ به لم يكن سعيداً.. وبدون قصد لم يكن كذلك .. فالبيئة والعائلة فقيرة، كنتُ أبحث عن مسارب الفرح لأعبّر عنها بطريقتي، رسمتُ على قمصاني رغم ندرة القمصان، لم أدع شيئاً لم أرسم عليه، دون أن يضربوني أهلي .. ولا أدري أهو نزوعٌ نحو الأملِ .. أو المتاعب ..؟ والفقر .. لا أعرف هل هو بؤس بتلك الإحاطة باللاسعادة ..؟ أم أمل ..؟ هي الحياة صعبة .حياتي لم تكن سعيدة .. ولكن كانت تتخللها لحظات فرحٍ مسروقة .. عندما كنتُ أحظى بلعبة صغيرة، أو بسكوتة مع راحة، أو بوظة .. أو حتى جراباً جديداً .. أو جراب أبي العسكري .. لا مشكلة .. فوالدي كان ضخماً وعريضاً .. وكان الجيش كريماً، وكانوا يُصغّرون لنا بنطلونه، فيصيرُ بنطلونين، ونغدو أنا وأخوتي كالجيش الانكشاري.أمّا بالنسبة لحالة الوطن اليوم، فيصعبُ عليّ بصدق توصيف ما ببلدي، لقد آلمني تغيير نفوس البشر، وأوجعتني طرق مناورة البشر على الحياة، وهذه الأزمة بقدر ما أنهكتنا بدون شك، فهي بمكانٍ ما آخر قوّتنا.. ولكن وبمكانٍ ثالث هزّت بنيةً ما، وخلقت أساليب تعاملٍ جديدة، لكن الأهم أن يعود هذا الوطن، ونحن نتفاءل بذلك، رغم أنّ عودته قد تكون طويلة، فالشرخ الذي حصل يلزمه الكثير من الوقت، ولكنني أُراهن أنه بالمواجهة الحقيقيّة، يصعدُ الوعي، فهناك شيء يستنهضُ فيك كل شيء، لأنَّ المواجهة حتميّة .. وأخيرة.. وفي المواجهة الأخيرة يكون الوعي هو الفيصل.•الفن التشكيلي في سورية.. إلى أين هو ذاهبٌ برأيك في هذه الأيام العصيبة ..؟باعتباري أدّعي بأنني شفّاف، فدعني أقول : إنه يبدو من المحرّمات في هذه الساحة التشكيليّة أن يكون لك رأياً صحيحاً، ويبدو أن القائمين على الساحة التشكيلية ديكتاتوريين، أكثر من أي ديكتاتور في العالم، لأنك عندما تحكي عن تجربتك بحرصٍ ومحبة، تجد ردود أفعال غريبة ومدهشة، فالكثير من الفنانين الذين ذهبوا إلى عندي في الإمارات، كنتُ دائماً على استعداد لأن أقدّم لهم كل ما باستطاعتي، ولاسيما إن كان الفنان سورياً، ولكنني فوجئت أنه لمجرّد أن تقول رأياً، أصبحتَ متهماً .. وأكثر من ذلك فأنا شُتِمت من مجموعة من الفنانين لمجرّد أنني قلت : هذه الساحة مُغل
التاريخ - 2018-11-16 7:23 PM المشاهدات 1278
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا