دائماً، أنا وهو، تدفعنا الغيرة أن نتشاجر كل أربع ساعات مرة، مثل نشرة الطبيب على علب اﻷدوية .الذي في داخلي، يحب التدخين والنساء ، وأنا أحب التأمل والجنون .لسنوات ،وحتى اﻷن ، ورغم عناده ، لم يستطع أن يجعلني أغني للناس يوماً، كان يعتبر خربشاتي مجرد جنون تائه في عالم غامض .وللوقت نفسه لم أتقن الحب ﻷعلمه إياه ، كنتُ أراه حب ضائع فوق شفتي ونهدي أمرأة .منصف ليلة اﻷمس ، أيقظني مرغمأ، أجالس ومن خلف زجاج نافذتي ، مقاعد خشبية كثيرة وسط حديقة خالية ، إلا من بعض أوراق خريفية صفراء ، مازالت تتشقلب بنشوة عارمة وسط رياح تداعبها كل حين ، حتى استقر بعضاً منها عند حافة الرصيف ، وأخرى كثيرة أجتمعت بين قدمي رجل عجوز ، يجلس فوق مقعد خشبي عتيق.بيت أبي قديم ، جدرانه ترابية ونوافذه عميقة ، في الشتاء ينفذ من سقفه المترب بعضاً من نقاط المطر ، بهدوء تصبح أخشابه المتراصة تعزف الموسيقا .تلك الليلة ، كان القمر وكأنه يراقبنا بخجل من خلف النافذة ، تارة يرسل أنواره الشفافة من بعيد لبعيد ، وأخرى يغمر بها وجهه الخجول وراء غيمة تشرينية رطيبة .عند الفجر ، ومن قلب هذا الصخب القائم ، ثمة بحار قديم يقف فوق خشب سفينته المرساة على ضفاف شاطئ أسطوري .فجأة ، وبلحظة سكون حالت بيننا ، وقبل أن يحادثني ، رن هاتفي الجوال.من بعيد ، صدى صوت أعرفه ناداني بإسمي ، عذوبة صوته ، كانت مثل رقرقة مياه باردة وسط الجلف الكبير ،بعدها راح يغني على إيقاع الموسيقا وحبات المطر .شهقت ، كان أخي المتوفي .-رأيتك ، أنت وجارتنا أم غمازات ، فنان في تقبيل الشفاه يا ملعون .بحسب نظرية عمي إينشتاين صوته مازال يسبح في الخلاء ، وحسب نظرية أمي لازالت روحه تعيش معنا .غريب أمره هذا العجوز ، منذ مدة ، وكلما مررت أمام سور الحديقة ، أراه بجلسته المعتادة يراقبتي بصمته الطويل ونظراته المستقرة .ذات مرة ، وأنا عائد من المدرسة ، ومن خلف السور ذاته ، ناداني مرتين لم أبالي .ﻷسبوعين ، أنا والمطر ، نتحادث عنه كثيراً ، نهارأ في المدرسة ، وليلأ من خلف زجاج نافذتي المطيرة ، مرة رأيت القمر يغوص في كتفه اﻷيسر ، ومرة أرى الشمس تشرق من أعماق عينيه المراقبة .هذا الصباح ، أنا وأوراق تشرين ، اجتمعنا أمامه وسط الحديقة، حدثني عن طفولتي والتاريخ...عن قصص العاشقين وقبلاتهم ، قرأ لي في الجريدة الرسمية عن أحوال الطقس واﻷبراج .بعض اﻷوراق الصفراء المتناثرة خشخشت مع هواء بارد هب للتو، جعل جسده يرتعش ، خلعت معطفي ورميته فوق كتفيه الباردتين .فجأة، وأنا ضمن هذا الجدل الخرافي ، ثمة جثث صفراء عملاقة ، تقدموا مع رافعة كبيرة ، إنتشلوني بحذر من فوق مقعدي ، وساروا بي نحو مكان مجهولبينما طفل صغير ، إنتشل معطفه البارد عني ،وعاد خلف السور يحادث ، هو والمطر ، أوراق صفراء مازالت تتشقلب في الهواء .##نزار مزهر##


التاريخ - 2017-09-30 6:31 PM المشاهدات 2440
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا