شبكة سورية الحدث


ماذا تعرف عن الطب بقلم عبد المنعم عبد الرحيم

ماذا تعرف عن الطب بقلم عبد المنعم عبد الرحيم

مَاذَا تعرف عَنْ الطِّب؟ 

سَأَلَنَا مُعَلِّمُنَا عِنْدَمَا كُنَّا فِي الصَّفِ الأَوَّلِ الاِبْتِدَائي، مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصْبِحُوا فِي المُسْتَقبلِ؟ 

اِنْهَالَ الجَّمِيعُ بإِجابةٍ وَاحِدَةٍ حَتّى مَلَّهَا المُعَلِّمُ، جَمِيعُ مَنْ سُئِلَ يُرِيدُ أَنْ يَصْبِحَ طَبِيْبًا، لَمَحْتُ في وجهِ المُعَلِّمِ التَّضَجُّرَ والاِسْتِيَاءَ مِنْ تَشَابُهِ طريقةِ التَّفْكِيرِ. 
أَقْبَعُ فِي الدَّرَجِ الآخيرِ مِنْ الفَصْلِ؛ لِطُول قَامَتِي، جَاءَتْ فُرْصَتِي لأَصْدَع عَنْ الصُّورَةِ الَّتِي كَوَّنْتُهَا لِنَفْسِي فِي المُسْتَقبلِ، أشارَ إِلَيَّ المُعَلِّمُ بِالعَصَا الَّتِي يُحْمِلُهَا، دون أَنْ ينطُقَ بِكَلِمَةٍ؛ كَأَنَّهُ يَعْرِفُ إِجَابَتِي مُسْبَقًا، قُلْتُ لَهُ بِكُلِّ ثِقَةٍ وشِمُوخٍ: أُرِيدُ أَنْ أَصْبِحَ أي شَئٍ إِلَّا طَبِيْبًا؛ وآخيرًا قَدْ رُسِمَتْ اِبْتِسَامَةٌ عَلى وَجْهِ المُعَلِّمِ؛ كَانَ يُرِيدُ عَقْلًا مُخْتَلِفًا، لا عقلًا يَتْبَعُ القطيعَ، وقال لي بِاِبتِسامَةٍ: أَظُنُّ بِأنَّكَ أَنْتَ الوحيد الَّذِي سيكونَ طبيبًا مِنْ بينِ هَؤلاءِ. 
مُنْذُهَا وكَلِمَةُ طَبِيبٍ لا تُغَادِرُ مُخَيَلَتِي، هكذا كانت البداية. 

ما قَالَهُ المُعَلِّمُ أَصْبحَ رَاسِخٌ فِيَّ، رُبّمَا كَانَ يَمْزَحُ لَكِنِّي أَخَذْتُ ما قالهُ على مَحْمَلِ الجِدِّ، لَقَدْ كان عَوْنِي الوحيد، ودافعي الأعظم هِيَ جُمْلَةٌ أَكُتبُهَا على كُلِّ دَفْتَرٍ أتحسّسُ ورقَهُ، وَبِكُلِّ قَلَمٍ يُعَانِقُ أطرافَ أَنَامِلِي، وكانت الجملة: "أَنَا أَتنفّسُ لأَكونَ طبيبًا يُدَاوي العِبَادَ".
كَانَتْ سِلاحِي عِنْدَ الشَّدائدِ، والوَهْنِ، حَارَبْتُ بِهَا حَتَّى وصِلْتُ عَتَبَةَ كُليَّةِ الطِّبِ، وَأَنَا مَحْفُوفٌ بَكَثِيرٍ من الأماني، سَطَحَتْ رِجْلِي فوق عَتَبَةِ الكُليَّةِ دون أَنْ أَعِيَ لأي مخاطرٍ، حينهَا أَطْلَقْتُ اِبْتِسَامةً عَريضةً؛ أظُنُّهَا كانت الأُوْلَى والآخيرة لي في هذه الكُليَّة.

لَمْ أَكُ أَعْلَمُ بِأنَّ الطِّبَ يَسْرِقُ العُمْرَ، والوقتَ، والرِّفَاقَ، كُنْتُ أَظُنُّ بِأَنَّهُ مُجرّدُ محطَّةٍ، وأنَّهُ مُجرّدُ سنواتٍ وتَمْضِي، لَمْ أَكُ أعلمَ بأنَّهُ سيرافقني حَتّى في المناسبات، كُلُّمَا اِنْغَرسْتُ في مجتمعٍ أَجِدُ كَلِمَة "دكتور" تسبقُ اِسْمِي، ويلتّفونَ حولي، ويشكون لي أوجاعهُمْ؛ اِكْتَشَفْتُ حِينَهَا أينما ذهبتْ أَجِدْهُ رَافَقَنِي. 

سَنَوَاتٌ وَأَنَا مُنْغَمِسٌ فِي كُتبِ الطِّبِ، بَعِيدٌ عَنْ الرِّفَاقِ، والأَفْرَاحِ، والمَرَحِ، مُنْزَويٌ في عَالمٍ ليس مَعِي إِلَّا الضِّغُوطات النَّفْسِيَّةِ، فِي مَثْلِ عُمْرِي يستمتعونَ بوقتِهِمْ؛ أسوأُ حقيقة عن الطِّبِ أَنْ شَبَابَكَ ليس مِلكَكَ. 

مَنْذُ أَنْ اِنْضَمَمْتُ لِكُليَّةِ الطِّبِ، أي عَامٍ يَمُرُّ؛ كُنْتُ أَكْبَرُ قُصَادهُ عَشْرَةُ أَعْوَامٍ، كُنْتُ أَكْبَرُ بِسُرعَةٍ مُخِيفَةٍ؛ الهَمُّ جَعَلَ مِنَ شعري الأسودِ أبيضًا؛ أحَاطَنِي بِهَالَةٍ مِنْ المَخاوفِ. 

ليس ذلك وحسب، فالطَّبِيبُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يَشْتَكيَ؛ أنت مَنْ يسمعْ الشَّكوى لا أَنْ يقُولهَا، وأَنْ تُضْمِدَ جُرحَ الآخرين وَإِنْ كُنْتَ تَنْزِفُ مِنْ الدَّاخِلِ. 
عَلَّمَنِي الطِّبُ أَنْ أُقَاتِلَ وحدي، وأَنَّ لا سبيل للاِنْهِزامِ أَبَدًا. 

مَتَى شَعرتَ بِأنَّكَ طبيبٌ لأَوَّلِ مرَّةٍ؟ 
عِنْدَما قَالَتْ لي أُمِّي وهِيَ مُفاخرةٌ بين حشدٍ مِنْ النِّسَاء، هَلَّا قِسْتَ لي "ضغطُ الدَّمِ" أَظُنُّهُ مُرْتَفِعٌ قليلًا. 
كانتْ أَحقُّ بأنْ تفتخرَ بِاِبْنِهَا؛ فقد أخذَهُ الطِّبُ بعيدًا عَنْهَا، لقد كان يسكنُ في سجودِهَا وَلَمْ يُفَارِقْهَا قَطّ، لقد اِسْتجابَ الله لَهَا.

كُنْتُ أغوصُ في الكُتبِ، والآن أغوص في جسم الإنسانِ كيفما شِئْتُ، بِإِمْكَانِي أَنْ أصلَ إِلَى أصغرِ شريانٍ في المُخِّ. 

أَهُنَالِكَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُزِيلَ الآلآم مِنْ جسدٍ مُتْعَبٍ؟! 
أَنْ تستئصلَ ورمًا خبيثًا أَهْلَكَ صاحبهُ أعوامًا؛ اِخْبرْنِي عن كيف سيكون شِعُورَهُ حينهَا؟! 
سيبكي تحت رجليكَ لأنَّ الله جَعَلَ رحمتهُ على يدِكَ.

قَاتِلْ بِصمتٍ من أجلِ هذه اللَّحْظَة، لا تشْتَكِ؛ لقد خُلِقْتَ لتسمع الشَّكَاوي، وتَجْبرُ الخواطِرَ، وَتُسْكِتَ أَنِينُ المُتعبين.

#عبدالمنعم_عبدالرحيم

التاريخ - 2019-12-23 9:59 AM المشاهدات 1221

يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرامانقر هنا