/فاتت سنة/
الثالث عشر من ديسمبر،لا يزال يحب عصير البرتقال...
بينما أنا جالسة في دكانتنا الصغيرة قرب مدفأة الحطب العتيقة،و أختي الصغيرة تحاسب زبونا انتقى مشترياته بعدما دخل دون إحساس مني بذلك ، سمعت صوتا لم يكن باللحن الذي أعرفه لكن كأنما الأثير أمسكني بيديه من خدي و رفع وجهي عن وجه محادثة قصيرة مع صديق...
-مرحبا
إنه هو...اجتاحتني موجة كهرباء أطفأت كل أنوار شوارع ذاتي التي ازدحمت بكل شي...
نمت على وجهه الذي لم أره لحية اعتنى بها جيدا...ازداد طوله عدة سنتيمترات...مرتديا ملابسا شتوية و قبعة أظنها من الصوف الناعم أخفت شعر رأسه...لم أر عينيه لكنني لا أزال أذكر بريقهما_الذي حفر ذاته في منذ أكثر من سنة_و ابتسامته العذبة اللذين و ربما هما من خبأا السنتيمترات القليلة التي زادها، خبأا تفاصيلا كثيرة ليفتحا أمامي أبوابا من تفاصيله التي حفرت بذاكرتي يوما بعد يوم، تفاصيل لا ترى لكن من العصي على عيني نسيانها...
خاطب أختي...لم أعلم ماذا قال، ساد الصمت في تلافيف دماغي التي تاهت في دوامة المصادفة هذه...سمعت لكنني لم أفهم شيئا...التفت لأنظر عبر الزجاج أبحث عن اللاشيء لا أجده...و لا أجد شيئا... كأنما أسدلت على عيني غشاوة...
كانت تلك الدقائق تجربة لا أستطيع وصفها سأكتفي بالقول أنني كنت حينها كمريض أصيب بشلل رباعي وقفت خلفه تفاصيل الماضي تشده بقوة و بكافة الاتجاهات،يسمع صوتا واحدا كنور ينعكس على كل المرايا يتردد أصداء كثيرة،لا يرى يحاول استجماع قوته و وضعها على شفتيه لينطق ثم يؤثر الصمت لتنفجر ذاته مرات كثيرة دونما ضجة،تشتعل دونما رائحة،يبقى ساكنا أمام غريب جديد في قائمة غرباء لا يعرفهم لكن قلبه التقاه مرات كثيرة،و شيء عجيب يدعى القدر كتب عنه و عن هذا الغريب عناوينا و كلمات كثيرة مرت في تلك اللحظة على درجاتها العتيقة ممحاة الحاضر...
كان الوحيد الذي يقف أمامي...اليوم تفصل بيننا أربع قطع من الرخام الرمادي المستلقي على الأرض...تفصل بيننا خطوات قليلة...لكن شتان ما بين هذا البعد الممتد إلى اللانهاية و بين حروفنا التي تشابكت مرات كثيرة...
تحطم كل شيء داخلي...انهارت سعادة كانت تتراقص سابقا عند مجيئه،سقطت راقصة الباليه،هاج بحر اتخذت عمقه موطنا قديما، تكسرت أمواجه حطمت الصخور التي استند عليها شاطئ روحي،غرقت راقصة الباليه و الموسيقا القديمة و حبات رمل لا تزال خطوات أحاديثنا عابقة فيها،غرقت روحي امتلأت رئتاها بالتفاصيل لم يعد هنالك من متسع لنفس واحد،رفعت يديها للسماء لا لتطلب النجدة بل لتطلب نثرة من ذاتها ضاعت فيه...لا تريد أن تموت ناقصة،لأنها و إن ولدت ثانية ستولد بلا نجمة من نجومها كعتمة ليل نجمه الوحيد منسي في عالم بعيد...
أحسست بكرهه لي بشموخه بجموده ببرودة عينيه اللتين لم تنظرا نحوي البتة...
قطع شريط الصمت الفاصل بيننا صوت الجارة...تريد علبة سجائر،تمنيت لو أن زلزالا يضرب الأرض تحت قدمي و يسحبني نيوتن إليه كيلا أقف و لا أمشي و لا أنطق بكلمة،مشيت كأنني قفزت عن الهواية نحو فراغ...
أسير نحو الزاوية التي التقينا فيها يوما ، ميلاد ابتسامته الأولى لي ، ميلاد لقاء وجهين_ أمام عيون علب السجائر النائمة_ كانا غريبين و اليوم غريبان ،كانا طفلين مدا رأسيهما من خلف عمود فاصل بينهما و اليوم شاب غريب و عجوز يذكرها هذا الغريب بحبها الأول،لم أكد أصل حتى بدأ غيابه بالحضور،كأنه قدم لإحياء ذكرى ؛لم تجد له أختي مراده...
بدوري انسحبت بهدوء تحججت بلا شيء لأختي و صعدت إلى غرفتي ،سالت الدموع من عيني كنت أرتجف و أبكي بمرارة لا عليه بل على نفسي التي لم تستطع نسيان شيء سوى مشاعر الحاضر،صدقا لم أعد أشعر تجاهه بأي شيء...لا حب ...لا شوق...أسميه دوما شعور اللاشعور ، لكن بركانا خامدا قد انفجر...
لا أعلم من يأتي بتلك البرودة و ذلك النسيان الذي تأملت بقدومه يوما ما لذاكرتي، لكن لا يدق بابي سوى المزيد من الذاكرة،أليس من سبيل لزهايمر يكنس شوارعي من خريفه؟...
أراد عصير البرتقال اليوم كما علمت من أختي ،لا يزال يحبه ...
فاتت سنة...بل أكثر من ذلك ...
هربت من أمي كيلا ترى احمرار عيني و دموعي ، و كيلا تبصر ذاكرتي المضيئة في رأسي ،اختبأت تحت أغطيتي علها تخفيني عن تسونامي الحاضر التي جرفتني بما يكفي اليوم،حمدا لله لم تخطر ببالي ميادة الحناوي في تلك الليلة...
/زينب ابراهيم محمود/...
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا