يومٌ في جحيمِ الأرض
اليوم وحدي مُجدداً أتسكَّعُ في شوارعِ مدينةٍ حزينة، رُبًّما قضيتُ ما يُقارِبُ الخمسَ ساعاتٍ أسيرُ من مكانٍ لِآخر، حامِلاً بؤسي فوق ظهري، وصاحبي في اللَّيل_الأرق_نائمٌ في جيبي، وصديقتي النَّهاريَّةُ_الوحدة_تضحكُ بِجانبي ..
الشَّوارعُ تطلُبُ الرَّحمةَ من جُثثٍ يسيرون فوقها، حِجارةُ الرَّصيفِ ثَكلى تبكي بِصمت .. أُناسٌ كُثرٌ هُنا وهُناك، ورغم دفءِ الشَّمسِ تظهرُ أكومُ ثلوجٍ في قلوبهم. أبواقُ السَّياراتِ تعوي كَذئابٍ في أذني. ألتفِتُ يمنياً ويساراً أُمعِنُ النَّظرَ في الوجوهِ التي تحكي مشاهِداً دراميَّةً بِنهاياتٍ مُختلفة.
فوضى في رأسي تهتِفُ مُطالِبةً بِالخلاص، وسطَ الزِّحامِ أُطالِبُ نفسي "كوب الشَّاي بِاللَّيمون والنَّعناع" علَّهُ يكون قشةً أو طوقَ نجاة .. ذكرياتٌ تُكفكِفُني وتُخِلُّ توازني في بعضِ الأمكنةِ لكنَّني أُتابِعُ السَّير.
الأسعارُ المُعلقةُ على واجهاتِ المحلاتِ التِّجاريَّةِ تتضاربُ مع السَّماء، تشعُرُ كَأنَّها في معركةٍ حاميةٍ معها، الخاسرُ الوحيدُ فيها شعبٌ فقيرٌ وبائس. رائحةُ الطعامِ الخارِجةِ من محلاتِ الوجباتِ السَّريعةِ تنقُرُ معدتي كَنقَّارِ الخشب، وتُطلِقُ سِهاماً في جُدرانِ معدتي المُفلِسة .. عُشَّاقٌ يتكدَّسون على حوافِ الحدائقِ، وبعضُ القُبلِ تُزيِّنُ المشهد. رجُلٌ في عقدِهِ الخامسِ يُكسِّرُ عِظامَ وَجهِهِ بِأصابعِ يديهِ ويبكي بِجانبِ لافتةٍ كَتَبَ عليها "أرجوكم أحتاج الطعام لأولادي فقط"، دموعُهُ حارِقةٌ أشعلتِ الهواءَ بيننا ..
رجُلٌ يملكُ بسطةً لِبيعِ كُلِّ شيء، يُنادِي بِأعلى صوتِهِ بِأنواعٍ من العُطور، أُخبِرُهُ في سرِّي "العُطورُ لا تُزيلُ رائحةَ الاحتراقِ يا عمّ" .. أمشي قليلاً بِبُطء، فَترمُقُني فتاةٌ غريبةٌ بِنظراتٍ تأكُلُ وَجهي كَأنَّها تقولُ لي "أيُّ أحمقِ أنتَ يا هذا" .. عجوزٌ سبعينيٌّ مرَّ بِجانبي يُتمتِمُ بِتُرهاتٍ كَالمجانين، رجُلٌ وسيَّدةٌ يسيرانِ مُتشابِكا الأيدي، في لوحةِ حُبٍّ ألوانُها ضحكتُهما، "لا بُدَّ لِلكفنِ أنْ يكونَ مُعطراً يا أحبَّتي، وأنتُما عِطري" ..
الوقتُ ثقِلٌ كَجبل، عقاربُ السَّاعةُ في يدي تُخرِجُ لسانها في وجهي ساخرةً. أمُرُّ من خلالِ النَّاس، أمتزِجُ بِهم كَأنَّني غيرُ مرئي _ وكم أتمنَّى ذلك_ فجأةً أرتطِمُ بِكتِفِ فتاة، فَتنهالُ عليَّ بِألفاظِ الاستهجان.
أُتابِعُ السَّيرَ بِلا وِجهة، بِلا هدف، بِلا أنا. ثُمَّ فجأةً رجُلٌ تجاعيدُهُ تُخيطُ حكايا أجيالٍ كثيرةٍ يخرُجُ من زُقاقٍ فرعيٍّ يصرخُ "تاذى يا كعك"، ما لفتني أنَّهُ حوَّلَ عربةَ أطفالٍ قديمةٍ لِعربةٍ يبيعُ الكعك عليها، كَأنَّ هذه القِطعَ من الرِّزقِ كَأولاده، كَأنَّهُ يحملُ لُقمتهُ الصَّغيرةَ بِفرح، كَأنَّ ضحكاتِ أطفالِهِ معهُ أينما ذهب. حقَّاً كان في نظري رجُلاً يحملُ قِطعاً من السَّعادةِ الطُّفولية.
في آخرِ الشَّارعِ رجُلٌ يُنقِّبُ بِحاويةِ القُمامةِ كَمن يُنقِّبُ عن كنزٍ من ذهبٍ فرعونيٍّ ويكفُرُ بِآلهةِ هذا الوطن ..
الوحدةُ تهمسُ في أٰذني" ألم تتعبْ بعد أيُّها المُغفل ..؟!"
اللَّعنة ! يبدو أنَّي هالِكٌ لا محالة، فَأيُّ شكلٍ من أشكالِ الموتِ مررتُ داخِلهُ اليوم !، وأيُّ جحيمٍ هذا ؟!
عمّار مازن مجر
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا