كنتُ ووالدي جالسان قرب الموقد في أحد ليالي كانون الباردة،نحتمي بثيابنا الثقيلة وندفئ أيدينا بكوبٍ ساخن من الزهورات،إن لم تخني ذاكرتي كانت شاي بالقرفة.
اعتدت أن أستمعَ لحوارات أبي حول مواضيع الكون المختلفة كلَّ ليلة،لم أكن أشعرُ بالمللِ إطلاقاً،لطالما شعرتُ بلذة المعرفة وهي تنساب عبر تلافيف دماغي وتذهبُ لمستقرها الأخير في أحد الأدرج لأعودَ لها حين الحاجة. منذُ صغري وذاكرتي ضعيفةٌ،أنسى الأسماء والأماكن ولكن أحاديثُ أبي لم أنسها قط،ربما ملأت ذاكرتي كلّها.
تنهدَ والدي بعمقٍ كللِّ مرةٍ يودُّ فيها بدأ حديثه،تتضيق حدقتاه وتسافرُ نظرتهُ وكأنه يبحث عن كلمات مناسبة بسيطة تناسب عقلي المبتدئ في عالم المعرفة.يقول أخيراً:
يا ولدي،لا تتوقع أنكَ ستصلُ لإنسانيتكَ ما لم تفهمها،من السهل الحديث عن الإنسانية والحياة ولكن الإنسان الحق هو من يلامسها ويدركها ويستطيع التشبث بها عوضاً عن ملذاته وأهوائه وغرائزئه الفطرية. لا أقولُ أن الغرائز أمرٌ خاطئ.. لا
فما يميزنا عن الحيوانات قدرتنا على التحكم بها، لا يمكننا الانفصال عنها ولكن لا يعني هذا الاندماج بها بشكل كامل.
أقرُّ لك،حتى أنا لا أظن أنني وصلت لإنسانيتي ولكنني أقول اقتربت منها ولامستها في أوقات ما.
الديانة والطائفة والجنس والمكانة الاجتماعية ماهي إلا محددات تساعدك وتسهل عليكَ الحياة.تسألني كيف؟ فأجيب:
أي أنها تحدد لكَ مساراً تمشي عليه فلا تتوه مابين هذا وذاك،لا يعني هذا أن تتحكم فيكَ بتعسف.احذرها فإنها متشابكة بشكل معقد وقد تضيع فيها وتتطرف إثرها وهذا طبيعي لنكن صادقين.فالتطرف في أمر ما من طبائع الإنسان التي لا يمكن الهروب منها ولكن العودة للاعتدال قبل فوات الأوان هي الأهم وليس كل شخص قادر على ذلك.
إن عقلك يستطيع استيعاب معرفة لا تتخيل مقدارها حتى.وهنا تبدأ إنسانيتك بالظهور حين تسعى بجد للولوج لأعمق نقطة في نفسك وعقلك وروحك،حين تتركها للتفتح على المعرفة وفهم مفاهيم الكون الشاسع وتأكد،لا أنا ولا غيري نستطيع جعلك تبلغ ذلك بل هذا أمر ينبع من داخلك.
من داخلك تصل بداخلك العميق،هكذا هو الأمر تماماً.
أرى أننا كبشر نحب الاكتشاف والاستفسار،او هذا ما اعتقده كوني انسان فضولي للامعلوم بالنسبة لي. أن كل زاوية في هذا العالم تحمل آلاف الأسئلة وباستطاعة الجميع الإجابة متى ما أرادوا أن يوقظو داخلهم الفضولي والجائع للمعرفة.
ما أوده منك بشدة يا ولدي..
ألا تسأل شخصاً لا عن دينه ولا طائفته،اساله عن معرفته ومن آرائه ومواقفه عليك استنتاج ما إن كان مناسبا لك أم لا.. أذاتهُ حرة أم عبدةٌ للموروث،التقاليد،المجتمع،وحتى قد تكون عبدة لحاجاته لا أكثر.
سُلاف خضر
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا