شبكة سورية الحدث


خلف النافذة بقلم علي ابراهيم حسن

خلف النافذة بقلم علي ابراهيم حسن

/ خلف النافذة/
مِنَ النادر أنْ تَجِدَ مدينةٌ في سورية تجتمعُ فيها رائحةُ النفط والغاز مع البرد القارس وهواء شرقيٌّ جاف يَنخَرُ العظامَ مِنْ شدّتهِ بسبب إنكماش المطر عن الهطول، وسماء مكفهرَّة عاتمة ساكنة وقاتمة صباحاً ورطوبة في الجوّ تملأ الأفق على شكل سحابات تتعانق مع الدخانِ الأسود المتصاعد مِنْ أدخنة المنازل التي تشتغل فيها مدافئ المازوت أو مدافئ الحطب حالياً بسبب قلَّة وغلاء المازوت. 
في العادة مَنْ يصحو باكراً في المنزل يقوم بالمهمَّة الصَّعبة وهي إشعال المدفأة والأصعب هو أنْ تجد " طاسة" المازوت فارغة فتحملها وتركض لتعبئتها مِنْ حنفية خزَّان المازوت أوَّل فصل الشتاء أو مِنْ بيدون تم شراؤه منذ أيام بسعر السوق السوداء، ومِنْ  ثمّ تركيبها على المدفأة وإشعالها بعد عدّة محاولات فاشلة، وبعد ذلك ترى نشاط البقية والذين كانوا يسترقون السمع ليتأكدوا مِنْ إنجاز المهمّة في النهوض والركض نحو المدفأة والالتفاف حولها وصاحب الحظ السعيد من يأخذ المكان الساخن بين الكوع والحائط!! 

تنظر من خلف النافذة المحكمة الإغلاق خوفاً من تسللّ النسمات الباردة فترى حركة خفيفة متثاقلة في الشوارع لرجال منكمشين على أجسادهم محنيّو الظهور يعتمرون قبّعات أو شالات تلتف حول أعناقهم وآذانهم ويلبسون معاطف سميكة وأيديهم مختبئة في جيوبها يلقون التحيّة متكاسلين على بعضهم بإيماءة من الرأس وهم ذاهبون إلى أعمالهم أو خرجوا مكرهين لتلبية حاجات ضرورية عند الصباح لأفراد عائلاتهم، وأنفاسهم الحارة الخارجة مما تبقّى مِنْ أفواههم المطبقة على سجائر مشتعلة يتخلّصون منها بحركة قذف من شفاهم قبل أن يشعروا باللهيب بثوانٍ، تلتقي مع البرودة لتتكثّف دخاناً أو ضباباً أو غيوماً بيضاء.

نساءٌ طاعناتٍ في السن يلقينَ التحية على بعضهنّ ويتوقفن قليلاً لتبادل الأحاديث والثرثرة ويتابعن المسير معاً وأصواتهنّ العالية تصدح في الحي، وقد خرجن للمزاحمة ضمن كتلة بشرية تنتظر معتمد الخبز وحين وصوله تندفعن نحو السيارة وتتصارعن للحصول على ربطة خبز لإطعام أولادهنّ أو أحفادهنّ قبل الذهاب إلى أعمالهم ومدارسهم، أو ذهبن لشراء " علبة متة" لعقد جلسات المتة الصباحية بعد خروج الزوج والاولاد، ومنهنّ - وحسب المعتاد في بيوت الحي - مَن انقطعن مِن "المتة" ليلاً ولكن أجّلن الشراء حتى الصباح لصعوبة الطقس والمحلّات المغلقة.

مساكينٌ هؤلاء الأطفال الصغار الأبرياء فتراهمْ في الشوارع يمشون أو يهرولون أو يتراكضون بإتجاه مدارسهم هرباً من البرد وأنوفهم الصغيرة محمرّة وهم مذهولون كيف تخرج أنفاسهم دخاناً أبيض ويتبارون وهم يضحكون مع أقرانهم بذلك، وثيابهم التي تشعرك بالبرد وأنت تنظر إليها تدّلك على فقر أهاليهم ووضعهم المزري، هم يتراكضون وظهورهم محنية بسبب ثقل حقائبهم المكتنزة بالكتب والدفاتر فهم يحملون المنهاج كله -ولا أحد يعرف لماذا- وقنينة المياه والسندويشات وقطع البسكويت لمن استطاع إليها سبيلا. 

انظر .... هذا رجل يفتح باب محلّه الذي يصدر أزيزاً مزعجاً ويداه ترتعشان من ملامسة الحديد البارد، وذاك " خضرجي" يلبس حذاء عسكرياً يُنزِلُ من السيارة صناديق الخضار ويديه محمرتين إلى حد الإزرقاق من البرد والصقيع، ليرتّبها أمام دكّانه على صفائح من حديد وتنك وينظّفها ويلمّعها ليجذب إليها أنظار الزبائن الذين سيتقاطرون بعد وقت قصير.  

ياللعجب ... فرغم هذا الصقيع هناك صِبيةٌ مراهقون يتجمّعون على زاوية الشارع تتوهجُ الحرارة في قلوبهم وأجسادهم ينتظرون خروج الفتيات مِنْ بيوتهن وهنَّ ذاهباتٌ كالفراشات أسراباً إلى مدارسهنّ ليغازلوهنّ أو يكتفوا بالنظر إلى وجوههنّ الجميلة وهنّ يتضاحكن ويتمايلن غنجاً. 
وقد لاحظتُ أنّ أحدهم عيناه كانتا تلمعان وهما متسمرتين في عينا تلك الحسناء التي احمرّ خدّيها خجلاً، أو ربّما من الصقيع على الأغلب!!!. 

البردُ يُشعِرَكَ بأنك مكبّل الأيدي والأرجل وتتكاسل في النهوض ولبس ثيابك والخروج للقيام بما خططت له في يومياتك. 
هي دقيقة تحتاجها حتى تتغلّب فيها على هذا الشعور فتنهض بقوّة وتخرج لترى أن الحياة في الخارج طبيعية جداً وكلّ الناس يقومون بأعمالهم اليوميّة غير مبالين بالبرد أو الصقيع أو المطر، وعندما تتحرّك يتأقلم جسدك تلقائياً وتستمر الحياة. 

في النهاية لاشيء يقفُ أمام تدفّق شلّالات الحياة والعمل والإنجاز والتي تذخرُ بها العقول والقلوب. 
جميلٌ فصل الشتاء في "حمص العديّة" رغم برودته، ومع المطر الذي ينتظره الجميع حالياً ليحلّ مكان موجة البرد هذه، ستتألّف حكاياتٌ ورواياتٌ تَنْسِجُ خيوطها ذاكراتٌ الأيامْ. 

#علي_ابراهيم_حسن
حمص في: ٢٩-١١-٢٠١٦

التاريخ - 2021-09-22 4:59 PM المشاهدات 683

يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرامانقر هنا