سورية الحدث الإخبارية
#سباقُ_الحياةِ_والزمن
أغدقَ اللّيلُ بظلمتهِ على شرفةِ ذاكَ الشّابِ ذي الأربعِ وعشرينَ عاماً ، كانتْ ليلةً خريفيّةً تكادُ تحسبُ من فرطِ هدوئها أنّكَ المخلوقُ الوحيدُ على هذا الكوكبِ ، وأيُّ كوكبٍ هذا الّذي يستطيعُ حملَ همومِ هذا الشّابِ مع أيِّ مخلوقٍ سواهُ !!
كانَ ذلكَ اعتقادَهُ حتّى دغدغَ صوتُ طفلٍ كلتا أذنيهِ بحنيّةٍ ، تلفّتَ نحوَ مصدرِ الصّوتِ بلهفةٍ وإذْ بهِ يرى حديقةً خضراءَ مضاءةً من كلِّ جوانبها ، تضمُّ بينَ ثناياها خمسَ مقاعدَ خشبيّةٍ وبضعَ أُناسٍ يتحادثون .
بجانبِ المقعدِ #الأوّلِ حُفنةُ أطفالٍ يتامى - أكبرهم لم يتجاوزِ الرّبيعَ التّاسعَ منْ عمرهِ - يلعبون ، وأماراتُ الفقرِ تنهشُ كلَّ شبرٍ من جسدهمِ الغضِّ ، وملابسهم الرّثّةُ تُظهرُ عُسرَ أيامهم ولمعةُ الحرمانِ تنعكسُ حزينةً من مآقيهم ؛ ورغمَ ذلكَ علتْ ضحكاتهم شيئاً فشيئاً حتّى كادتِ الأشجارُ من حولهم تعانقهم من فرطِ براءتهم ، لا يأبهونَ بما ينتظرهم من أيامٍ ثقالٍ ستنحتُ على أكُفّهم كلَّ أشكالِ التّعبِ الممزوجِ بالحنينِ لحُضنٍ حُرموا منهُ على حينِ غفلةٍ من هذا العمر ؛ فيلبسون بذلكَ ثوبَ المسؤوليّةِ المطرّزَ بأحلامِ الطّفولةِ في مسرحيّةٍ عنوانها القدر و جمهورها ماتَ قبلَ أن تبدأَ حتّى!!
أشاحَ ناظرهُ علّهُ يجدُ منظراً أقلَّ وطأةً على قلبهِ من سابقهِ ؛ وإذ بمقعدٍ #ثانٍ يتوسّطهُ شابّانِ في مقتبلِ العمرِ ، ارتمى رأسُ أحدهما على كتفِ الآخر وهمومُ الحياةِ تلتهمُ - هنيهةً هنيهةً - آخرَ بسمةٍ صمدتْ على ثغرهِ كأنّ لها ثأراً مع هذا الشّابِ ؛ فيقاطعُ صديقهُ هذا المشهدَ الحزينَ ويرمي يدهُ كحبلِ نجاةٍ يلتفُّ حولَ عنقِ صديقهِ المنكوبِ محاولاً بكلِّ صدقٍ إنقاذَ شمعةِ الأملِ من أنْ تنطفئَ في روحهِ ؛ مربّتاً على رأسهِ يخبرهُ أنّهُ بجانبهِ ومعهُ كظلّهِ حتّى الموت ، راسماً بذلكَ أبهى صورِ الصّداقةِ الأخويّةِ .
وإذ بصرخةِ فرحٍ أنثويّةٍ تكسرُ صفوَ هذا المشهدِ الجميلِ ، التفتَ الشّابُ متتبّعاً مصدرَ الصّوتِ فكانَ هناكَ شابّةٌ جميلةٌ أزهرَ الرّبيعُ على وجنتيها الورديّتين ، فتاةٌ لم تتجاوزْ عقدها الثّالثَ تجلسُ على المقعدِ #الثّالثِ في الحديقةِ ، وأمامها شابٌّ ثلاثينيٌّ يجثو على ركبتيهِ حاملاً بيدهِ اليمنى خاتماً ذهبيّاً ؛ يطلبُ يدها للزّواجِ معلناً انتصارَهما بحربٍ شنّتها الظّروفُ على حبّهما ؛ فالحبُّ ليسَ مجرّدَ شعورٍ جميلٍ نعيشهُ بلْ جسرٌ مليءٌ بزجاجِ التّضحيةِ المكسورِ الذّي لا بُدَّ أنْ يعبرهُ العاشقانِ بقلبٍ حافيٍ طاهرٍ حتّى يصلا إلى ضفّةِ السّعادةِ المقابلة التّي تمثّلُ محرابَ الحبِّ المقدّس .
صفّقَ لهما رجلٌ وامرأةٌ كانا قد وصلا إلى المقعدِ #الرّابعِ مع نجليهما الصغيرينِ منذُ برهةٍ ، زوجانِ في منتصفِ العمرِ أكلَ الدّهرُ ما استطاعَ من سنينِ عمرهما سويّاً ، كأنّهما ذبحا سعادتهما فديةً كي يعيشَ ولداهما براحةٍ لم ينعمْ بها أطفالُ المقعدِ الأوّلِ اليتامى .
وأمامَ هذا المشهدِ الإنسانيّ قفزتْ كرةٌ مطاطيّةٌ ارتطمتْ بهدوءٍ برجلِ المقعدِ #الخامسِ المخفيّ قليلاً عنِ الأنظارِ ، أمعنَ الشّابُ النّظرَ علّهُ يرى قصّةَ حبٍّ تختمُ سابقتها ؛ فتفاجأ برجلٍ مسنٍّ تعلو جبهتهُ تجاعيدٌ تحكي لنا كيفَ حطّمتْ مطرقةُ العمرِ آخرَ صخرةٍ في منجمِ شبابهِ ، يجلسُ وحيداً مع صورةٍ صغيرةٍ بين يديهِ ودمعةٍ ثقيلةٍ ملأتْ عينَهُ تأبى السّقوطَ ، فالصّورةُ أوحتْ بأنّها لامرأةٍ مسنّةٍ سرقها الموتُ خلسةً دونَ استئذانٍ ورمتْ بالعجوزِ جثّةً حيّةً تصارعُ آخرَ أيّامها في هذهِ الدُّنيا .
حينها اقتربَ الطّفلُ منَ المقعدِ كي يستردَّ كرتهُ مقاطعاً بذلكَ هدوءَ العجوزِ وخلوتهِ مع نفسهِ .
وقفَ على بعدٍ مترٍ من العجوزِ في مشهدٍ يختصرُ لنا الحياةَ بكلِّ مراحلها ، فتمتمَ الشَّابُ بينهُ وبينَ نفسهِ : يا إلهي بينهما " مترٌ وسبعونَ عاماً " تشهدُ لنا أنَّ الحياةَ تركضُ دونَ النّظرِ إلينا خلفها .
د.أحمد علي
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا