سورية الحدث
أكرهُ فيروز~
أمشي في حديقةِ السبيل، ألعبُ الكُرة مع صديقي، يجتمع الكثيرون حولنا، نجمع فريقين، ونهزمهم، نذهب لِنحتفلَ بانتصارنا، فَنقفُ على دورِ الخبز لثلاثة ساعات متواصلة، نشتري السَّحْلَب؛ وإذ بِبائع السحلب يغنِّي بصوته الشّائب: "أنا لحبيبي وحبيبي إلي"، يقول لنا بائع السّحلب: صحيح أنا فقير ومنتوف بس مبسوط كتير؛ لأن بسمع فيروز الصّبحيات..
أعودُ للمنزل، تفتح والدتي اليوتيوب: "طيري ياطيارة طيري يا ورق وخيطان"؛ وإذ، صوت الطّيارة قادم ولانعلم إن كُنا سنكملُ يومنا هنا أم في القبر، يقول أبي: جهزتلكم الفطور، ويضع شريط: "وطني، ياجبل الغيم الأزرق"، فأبتسم لعائلتي، وأبكي على هذا الوطن الذي يتغنَّوْنَ فيه، ينتهي الفطور وتنتهي معه آخر قطرة ماء في المنزل، يا إلهي، المياه مقطوعة منذُ أربعين يوم! وعائلتي تتغنَّى على ألحانِ فيروز!
أبحثُ عن "البيدونات"، أحملُ اثنان، الواحد منهما يتّسع لِعشرين لترًا، وأنزل من الطابق الثاني نحو الحارة البعيدة، أقف في الصَّفِّ الطّويل، وأنتظر، أغفو، ويوقظني أحدهم عندما يحلّ المساء، _وبالألف يازور_، حصلتُ على مايُقارب الثلاثين لتراً، أحملهم والسّعادة تغمرني مُتجهاً نحو المنزل، أستريح قليلاً وأجلس على الرصيف متأمِّلاً النّجوم، في البناء المقابل يجلس عجوزان ينظران للجهة المقابلة من السّماء وعلى مايبدو صوت فيروز؛ لكنَّه يصِلُني بِصعوبة: "نحنَ والقمر جيران"، أمشي قليلاً لِأكتشف مكان القمر فأبتسم، أصلُ للمنزل، وتكاد فرحة العائلة تملئ الدُّنيا، الفرحة الأولى بحصولنا على الماء، والفرحة الثّانية بأنّي وصلت بالسّلامة ولم يمَسَني الضّرر من إحدى "الجماعات الإرهابية" كما يُقال، أجلس في عتمة الليل وحيدٌ تماماً، أسهر مع القمر وصوت المدافع، وأبي يتغنّى بصوت فيروز طول اللّيل، أتأمّل صديقي الذي هرَب من هذه البلاد، وأتأمّل في الشّارع الفارغ الذي أمامي وأتخيّل فيروز بما كانت تفكر عندما غنّت: "أديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس!"
أكرهك جداً يافيروز، لم أحبّك إطلاقاً كما أحبّك جيل والدي وجدّي، أعتذر عن كرهي لكِ، صوتكِ النّاعم يذكرني بحلب، بليالي حلب القاسية، بالشتاء، ببائع السّحلب المنتوف، بدورِ الخبز والماء والغاز، بسهراتي الحزينة مع ضوء القمر، بآمالي التي خيَّبتها تلك البلاد، يذكرني صوتكِ بطريقي من حلب إلى الحُدود، حيث عندما خرجت من حلب في 2015 قلتُ في نفسي: (رح أرجعلك ياحلب، وعد)؛ ولكنّي كنت أكذب على نفسي، وأعلم بهذا، كنت أعلم تماماً أنّي لن أعود، ولن أسمع صوتكِ الدافئ في مكان آمن، وإنّما؛ لرُبّما أفتح اليوتيوب وأكتب: فيروز حلب، فأشاهد مقاطعاً مصورة لشوارع حلب مع أغنية: "احكيلي عن بلدي"، وأبكي...
أكرهُكِ بقدر اشتياقي لحلب يافيروز
ليث كفرناوي
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا