سورية الحدث
تعد من أقدم وأهم مدن فلسطين التاريخية. مرت على أرضها العديد من الحضارات، واحتلها وحكمها سلسلة طويلة من الغزاة، واشتهرت بصدها نابليون بونابرت وسقوطه على أسوارها إبان الحملة الفرنسية.
وكانت حلقة الوصل بين أوروبا وفلسطين بفضل مينائها الذي يعد من أهم وأقدم موانئ فلسطين لصيد الأسماك والتبادل التجاري ورحلات الحجاج المسيحيين، كما أنها تتميز بموقعها الأثري، فهي تحتوي على العديد من الآثار والمعالم التراثية.
كان ازدهار مدينة عكا مرتبطا دوما بموقعها الجغرافي، فهي مرفأ طبيعي معد بصورة جيدة، وهي أيضا محطة لجميع القوافل الكبيرة الآتية من الشمال ومن الشرق ومن مصر.
وتقع عكا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وتبعد عن القدس حوالي 181 كم إلى الشمال الغربي، وتبعد 21 كم عن الحدود اللبنانية جنوبا.
وتقول المراجع التاريخية إن المدينة تأسست في الألف الثالثة ق.م على يد العرب الكنعانيين الذين جعلوا منها مركزا تجاريا ودعوها باسم (عكو) أي الرمل الحار. وجاء في معجم البلدان: "من القبائل الكنعانية التي نزلت بلاد الشام الجرجاشيون، وكانت منازلهم شرقي بحيرة طبريا وقد ذكر بعضهم أنهم هم الذين أسسوا عكا".
أصبحت بعد ذلك جزءا من دولة الفنيقيين، ثم احتلها العديد من الغزاة كالإغريق والرومان والفرس والفرنجة الصليبيين.
ودخلها العرب المسلمون عام 636 ميلادية بقيادة الصحابي الجليل شرحبيل بن حسنة. وأنشأ فيها معاوية بن أبي سفيان دارا لصناعة السفن، ومنها انطلقت أول غزوة لجزيرة قبرص. وعمل هشام بن عبد الملك على توسعتها وتجديد بنائها، وأقام له قصرا فخما فيها.
في عام 1104 غزا الفرنج عكا، وواصلت عكا خلال الحقبة الصليبية ازدهارها كمركز تجاري رئيسي لشرق البحر الأبيض المتوسط، وكانت مدينة ثرية نسبيا نابضة بالحياة التجارية. وقد انتهى عهدها الذهبي بسقوطها عام 1291 بيد المملوك الأشرف خليل بن قلاوون في ما عرف بـ"فتح عكا".
ومع نهاية حكم المماليك وقعت فلسطين تحت حكم الدولة العثمانية التي دام حكمها قرابة الأربعة قرون.
وترك العثمانيون أثرا كبيرا في ازدهار مدينة عكا، حيث ازدادت أهمية الميناء على أيامهم، وأنشأوا المدارس والمساجد والكنائس والحمامات والأسواق والسرايا وغيرها من الأبنية الحكومية والخاصة.
وفي عام 1744 احتل ظاهر العمر المدينة، وفي عام 1750 أصبح حاكم عكا مقابل مبلغ من المال يرسله إلى والي صيدا. عندها انقلبت عكا من قرية منسية إلى مدينة مركزية ومهمة خاصة بعد تحصينها بسور وأبراج. وبلغ طول السور 500 متر في الشمال و300 متر في الشرق، ووصل ارتفاعه إلى ثمانية أمتار، وسمكه كان حوالي مترا واحدا، ولم يكن هناك نفق أمامها أو قناة عميقة.
وبرز الآغا أحمد الملقب بـ"الجزار" على مسرح الأحداث في عكا وهو من المماليك. وتميز حكم "الجزار" بسيطرته على القوى المحلية في فلسطين وجبل لبنان وتحديه للعثمانيين وإدخال ولاية دمشق ضمن دائرة نفوذه.
وبلغت عكا أوج مجدها عام 1799 عندما أوقفت زحف نابليون الذي وصل إليها بعد أن احتل مصر وساحل فلسطين، وحاصرها مدة طويلة ولكنه فشل في احتلالها بفضل صمود "الجزار".
وبدأت حملة نابليون على فلسطين بعد أن هزمت الجيش العثماني، وسار الجيش الفرنسي باتجاه أسدود ثم إلى الرملة ويافا، كما أنه استولى على حيفا بعد قتال شديد، ومن ثم توجه إلى عكا فلم يستطع أن يدخلها، وهاجم أهل عكا فيها الفرنسيون، وحاول نابليون اقتحام أسوار عكا 7 مرات باءت جميعها بالفشل، وسرعان ما دب الطاعون في الجيش الفرنسي بسبب كثرة القتلى من الطرفين.
وكتب نابليون إلى الحكومة في باريس بأن احتلال عكا لا يستحق كل هذه الخسائر، وفي أثناء ذلك وصلت رسالة من باريس تطلب من نابليون العودة إلى فرنسا. وقال كلمته الشهيرة: "تحطمت أحلامي على أسوارك يا عكا، وداعا لا لقاء بعده".
وبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى دخل الجيش البريطاني عكا عام 1918.
وكان لأهالي عكا دور في الانتفاضات والمظاهرات والمؤتمرات والثورات الفلسطينية ضد الإنكليز والعصابات الصهيونية.
وفي هذه الفترة كان في المدينة سجن اشتهر إثر "ثورة البراق"، حيث قامت السلطات البريطانية بتنفيذ حكم الإعدام في ثلاثة من رجال المقاومة الفلسطينية، هم محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، عام 1930.
وبعد انسحاب القوات البريطانية عام 1948، دافع أهل المدينة عن مدينتهم التي ما لبثت أن سقطت بأيدي المنظمات الصهيونية المجهزة بالمصفحات والمدافع والزوارق الحربية، ما تسبب في تشريد جزء كبير من أهالي عكا بعد عدة مجازر قامت بها العصابات الصهيونية في المدينة وقراها لترويع السكان العرب وإجبارهم على الرحيل.
وبعد النكبة، قامت البلدية الإسرائيلية بممارسات كرست العنصرية في المدينة، كمنع عمليات ترميم المنازل العربية، واستهداف دور العبادة، بالإضافة إلى تغيير الأسماء العربية للشوارع والأحياء إلى أخرى عبرية.
وسيطر الاحتلال على 85% من منازلها، ولم تتوقف السلطات الإسرائيلية عن تضييق الخناق على عكا العربية واضطرار سكانها إلى الرحيل من خلال إنذار السكان العرب ومنعهم من ترميم بيوتهم التي باتت معظمها تعاني من التصدعات، بل والانهيار.
وأفشل صمود فلسطينيي عكا، وتمسكهم بمدينتهم كل مخططات التهويد، وبقيت البلدة القديمة، وهي مدينة عكا الأصلية، عربية مائة بالمائة. وحافظ سكان عكا داخل البلدة القديمة على مساجدهم وكنائسهم، وسط محاولات للاستيلاء على مسجد المنشية الذي يقع في قرية المنشية المهجرة، ومسجد اللبابيدي في عكا الجديدة.
وكان أغلب سكان عكا قبل نكبة عام 1948 من العرب المسلمين، وكانت فيها طائفة يهودية صغيرة، ومع ارتفاع وتيرة الاستيطان اليهودي أصبح الفلسطينيون يشكلون 35% فقط من نسبة السكان، بحسب إحصائيات 2010.
ويوجد في عكا مركز ومعبد لأبناء الديانة البهائية يعتبر من أهم المعابد البهائية إلى جانب المعبد الموجود في مدينة حيفا.
وتحوي المدينة الكثير من المعالم التاريخية، من أهمها حدائق البهجة، وفيها سور الجزار الذي أقيم على بعد 15 مترا من السور الداخلي، وفيه تسعة أبراج للمراقبة، واشتملت أسوارها على مرابض ضخمة للمدفعية أثناء الحصار الفرنسي، حيث بلغ عدد المدافع نحو 250 مدفعا.
وفي المدينة مقام النبي صالح، ويقع في المقبرة الإسلامية جنوب عكا، وتحتوي المقبرة على أضرحة الشهداء الثلاثة، فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير، الذين أعدمهم الإنكليز، وضريح الشيخ غانم وكان من العوامين الذين أقاموا اتصالا بين سكان عكا وصلاح الدين، ويقال إنه لقي مصرعه غرقا وعثر على جثته قرب ميناء عكا.
وتحتوي عكا على العديد من الآثار والمعالم والأماكن الأثرية القديمة من غالبية العصور التاريخية؛ فهناك السوق الأبيض وحمام الباشا وخان العمدان والقلعة وأسوارها الحصينة والممر الألماني وغيرها.
ويظهر في أبنية عكا فن العمارة الفاطمي والصليبي والعثماني، كما أنها تتميز بعمارة جامع الجزار الذي شيد من أعمدة رخامية قديمة. وقامت منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونيسكو) بإدراج البلدة القديمة في عكا عام 2001، التي تحوي آثارا عثمانية وصليبية، ضمن قائمة التراث العالمي.
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا