لا أحد يمكنه تجاهل ما تفعله الحروب في المجتمع على كافة الأصعدة، سواء من جهة تلاشي الكثير من القوانين وغياب الرقابة المادية والأخلاقية عن العديد من المسلكيات، أو الأفعال الشنيعة التي يقوم بها الأفراد أو المسؤولون عن تطبيق القوانين وحماية الحقوق، أو الانفلات المرعب للسوق، أو تحليق البطالة لمستويات خيالية ترتفع معها مستويات الفقر والعوز، لاسيما في الحروب التي تأخذ طابعاً أهلياً بحكم سيطرة أحد الطرفين على مواقع وأماكن تخرج عن سيطرة الطرف الأساسي- الحكومة.غير أن ما شهده المجتمع السوري خلال الحرب التي يُعاني ويُكابد ويلاتها طيلة السنوات السابقة، إن كان على مستوى الموت والتهجير والدمار المجنون من جهة، أو على مستوى الفلتان الأمني والرقابي والقانوني الذي طال حياة الإنسان بشكل مباشر وأساسي، قد فاق كل التصوّرات والاحتمالات والاحتمال بآنٍ معاً، حيث انفلت كل شيء من عقاله وكأنه الطوفان يجرف في طريقه كل أمل في استمرارية الحياة بحدودها الدنيا، خاصة تلك المتعلّقة بالقضايا المعيشية الأساسية للشرائح الأكثر تضرراً وفقراً. فقد عاشت تلك الشرائح وعلى مدى سنوات الحرب، وما زالت، غلاءً فاحشاً وجنونياً تخطى كل احتمال، حتى لم يعد للكثيرين طاقة عليه من أجل تأمين قوت يومهم، ناهيك عن الاحتياجات الأخرى من علاج ودواء وخدمات ضرورية أخرى خرجت هي الأخرى من نطاق الرقابة والقانون لتحلّق بشكل جعل العديد من الناس يهابون المرض أكثر مما يهابون الجوع والموت، وهذا كله بسبب جشع ونهم التجّار الذين وجدوا في الحرب فرصة جديدة لتكديس الأرباح والأموال ولو على حساب قوت وموت الناس.طبعاً، يجري كل هذا في ظل سياسة حكومية تنصّلت من كل مسؤولياتها والتزاماتها تجاه مواطنيها، بل بالعكس فقد جرى وما يزال غض الطرف عمّا يقوم به أولئك التجّار وأمثالهم من متاجرة قذرة بقوت الناس، وفسح المجال أمامهم رحباً من خلال انعدام الرقابة إن كان على الأسعار أو على النوعية وطريقة عرضها في السوق، حيث يتم بين الحين والآخر طرح مواد غذائية وأدوية منتهية الصلاحية، مثلما يتم احتكار وفقدان بعض المواد الأساسية من السوق بهدف رفع سعرها مجدداً، إضافة إلى تخلي الحكومة ذاتها عن دعم الاحتياجات والمواد الأساسية التي رُفعت أسعارها أكثر من مرّة في زمن قياسي، بدل أن تكون حكومة أزمة تتعامل مع مواطنيها لاسيما الفقراء منهم برعاية وحماية أكثر زمن الحرب، التي شهدت بطالة خيالية كانت أحد أسباب اتساع رقعة الفقر والعوز في المجتمع.ويأتي اليوم وزير الاقتصاد وعبر لقائه الأسبوع الماضي مع وسائل الإعلام ليُحدثنا عن عقلنة الدعم الشبيهة إلى حدٍّ كبير بما سُمي باقتصاد السوق الاجتماعي الذي أطلقته حكومة النائب الاقتصادي السابق عبد الله الدردري، تلك العقلنة التي وصفها كما يلي:(إن عقلنة الدعم التي تم تبنيها من قبل الحكومة لا تعني تحرير ورفع الأسعار، وأن أهم عامل في تخفيض الأسعار هو وفرة المادة في السوق مع إيجاد سياسة اقتصادية تضمن زيادة الإنتاج وتوفيره بسعر قريب من التكلفة، إلى جانب تفعيل دور مؤسسات التدخل الإيجابي بشكل فعلي ومنافس عن طريق إدارة فاعلة، والإسهام في توفر السلة الغذائية اليومية، إضافة إلى إصدار قائمة تسعيرية بالسلع الأساسية التي تلامس ذوي الدخل المحدود وتشديد الرقابة عليها). وأضاف: (إن الدولة كانت تدعم المشتقات النفطية والسلع الأساسية التموينية والخدمات العامة، ونحن نعلم أن هذه الأموال اليوم فيها إشكالية لأنه سابقاً كان الدعم يأتي من المشتقات النفطية، اليوم نحن نقوم باستيراد هذه المشتقات ونتحمل تكاليف وأعباء الاستيراد التي تخضع لتقلبات سعر الصرف، والأهم من ذلك هو المحافظة على استمرار دورة الإنتاج، لافتاً إلى أن التحدي الأكبر أمام الاقتصاد السوري اليوم هو ارتفاع تكاليف الإنتاج، وخاصة النفط، والذي من المرجح أن ينخفض مع بداية العام).نستشف من هذا الكلام أن هذه الحكومة لا تختلف في نهجها عن الحكومات السابقة، التي اتخذت من إصدار تسميات تحمل في حروفها بُعداً إنسانياً وهمياً للأسف، ترمي من ورائه إلى تمرير سياسات اقتصادية بعيدة كل البعد عن شرائح الفقراء وذوي الدخل المحدود وهمومهم ومعاناتهم، محابيةً أكثر لفئة لا علاقة لها أساساً بالاقتصاد وازدهاره، ولا بالعمل الاقتصادي الحقيقي، بل هي فئة طفيلية نمت وترعرعت في ظل حمايتها وتسهيل نشاطاتها المشبوهة، وذات الصلة بالمنظمات والهيئات الدولية التي ترمي إلى انتهاج سياسة تحرير السوق والاقتصاد، وبالتالي المساس بسيادة الدولة ومعيشة وكرامة المواطن المسحوق أصلاً. وباعتقادي أنه من هنا جاء تهرّب الوزير من توصيف هوية الاقتصاد السوري، واللجوء إلى دغدغة مشاعر المواطن والفلاح والمنتج وجعلهم أولوية للحكومة حينما قال:(إن المهم ليس هوية الاقتصاد ولا التسمية، وإنما الهم الأول للحكومة هو المستوى المعيشي للمواطن، والأهم كذلك كيف يتكيف الاقتصاد مع الأزمة، والأولوية كذلك للمزارع والمنتج، والتي يجب أن تصب سياسات الدولة في هذه الخانة بعد تخفيف تبعات وأعباء الأزمة على الاقتصاد، لتمكين المنتجين من المنافسة واستمرار الدولة في تقديم الخدمات العامة). وبالعودة إلى عقلنة الدعم هذه، نجد أنها تتطلب من المواطن المسحوق التحمّل والانتظار مجدداً وقتاً قد يستغرق وجوده كله عمره كله دونما طائل أو حتى بصيص أمل، وإذا كانت عقلنة الدعم لا تعني تحرير ورفع الأسعار، فلماذا تمّ رفع أسعار العديد من المواد والخدمات الأساسية التي تُقدّم للمواطنين بدءاً من رغيف الخبز وليس انتهاءً بالمازوت الذي لم يقف الحد عند رفع سعره كمادة حيادية، وإنما طال معظم السلع والخدمات ذات الصلة به؟ ليس هذا وحسب، بل جرى رفع سعر المازوت للصناعيين بشكل سيُضاعف من معاناة المواطن، لأن هذا الصناعي لا يمكنه يوماً أن يكون خاسراً، أو حتى بائعاً بسعر الكلفة، وإنما سيبيع منتجه مُضافاً إليه فارق السعر في المازوت على السلع المنتجة، وبالتالي يكون المستهلك الفقير هو من سيدفع الفرق مجدداً، إضافة إلى أن هذا الصناعي ذاته، ومعه التاجر وصاحب رأس المال الذي يقوم بأي نشاط، هم من يتهرّبون من دفع الضرائب الحقيقية إلى خزينة الدولة التي تجبي ضرائبها من جيوب ذوي الدخل المحدود بشكل رئيسي، ولاحقاً من فئات وشرائح تقع أعمالها ومعاملاتها تحت مظلة الضريبة. ثم ألا يعتبر رفع سعر المازوت، للفلاح والصناعي وغيرهم من منتجين، عرقلة للإنتاج الذي ينتظره الوزير مع الحكومة كي تتحقق عقلنة الدعم التي صدعونا بها منذ مدّة..؟وبالعودة إلى مؤسسات التدخل الإيجابي التي ما زالت الحكومة تتغنى بها منذ ما قبل الأزمة حتى يومنا هذا، فهي مؤسسات غير منافسة أصلاً، وذلك بحكم التسعيرة القريبة إلى حدٍّ كبير مع أسعار السوق لجهة الخضار والفواكه وما شابه، وأيضاً بحكم النوعية والمظهر بالنسبة للألبسة ومستلزمات المدارس من قرطاسية وسواها، وهنا نحن أمام تنافسية عرجاء ومشوّهة لا تُلبي الاحتياجات، ولا تترك مجالاً للاختيار أو الوسطية الموجودة خارج هذه المؤسسات، وبالتالي لم يبقَ أمامنا سوى السوق المنفلت من عقاله، والبعيد أو الخالي من الاهتمام الحكومي بالسلة الغذائية اليومية والقائمة التسعيرية المخصصة للسلع الأساسية التي تُلامس ذوي الدخل المحدود، وتشديد الرقابة عليها كما قال السيد الوزير.ثمّ، ما ذنب شرائح الفقراء وذوي الدخل المحدود إذا كانت هناك إشكالية في تمويل النفط ومستلزمات الخدمات العامة المفروض تقديمها مدعومة من قبل الحكومة لهذه الشرائح؟ما ذنبنا حتى نُعالج وندفع من جيوبنا ومن لقمة عيشنا مستلزمات هذا التمويل في الوقت الذي أصبحت الهوّة كبيرة وكبيرة جداً ما بين الأجور وأسعار كافة المستلزمات والخدمات المطلوبة لأبسط أسس الحياة؟!وبعد، كيف يمكن للشرائح الأضعف والأفقر، وما يرفدهم من ذوي الدخل المحدود والمهدود، أن تفهم وتعي وتستوعب عقلنة الدعم الحكومية في ظل كل هذا الجنون الطاغي للأسعار والحياة بكل أبعادها..؟
الحدث - النور
التاريخ - 2015-08-23 7:48 PM المشاهدات 1121
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا