يكاد يكون جزء واسع من خطاب الرئيس السوري بشار الأسد، أمام مجلس الشعب (البرلمان) في دمشق أمس، سجالاً غير معلن مع الحليف الروسي.
المحطات الكثيرة التي توقف عندها تنطوي على رسائل متعددة، جوهرها أن سوريا
لا تزال تمسك بقرارها، ولن تقبل بالوصاية، جاعلاً من الدستور ومضمونه جبهة
صراع أساسية حول مستقبل سوريا.
الرسالة تنجلي تدريجياً في كل العناوين التي تطرق إليها الكلام الرئاسي
السوري. من الهدنة أولاً، التي أعلنها الروس، رغم الاستياء الذي عبّر عنه
الضباط السوريون من فقدان تلك الفرصة التاريخية للمضي قدماً في معركة سوريا
الكبرى حول حلب، والاستفادة من الإسناد الجوي الروسي الكثيف للتعويض عن
نقص العديد الذي أدى إلى تراجع الجيش السوري خلف أسوار «سوريا المفيدة».
الأسد بنفسه كان قد شرح التراجع الميداني، في تموز من العام الماضي،
واضطرار الجيش إلى إخلاء منطقة للدخول إلى أخرى، محيلاً الحرب إلى عملية
كرّ وفرّ على الساحة السورية بأسرها. الرئيس السوري لا يزال حريصاً على
إبراز الهامش السيادي الواسع تجاه حليف قد يتخذ مبادرات من دون الرجوع
إليه، خصوصاً عندما تدخل القرارات في تماس مع السعي الروسي إلى التفاهم مع
أميركا، والتملص بسرعة من العملية العسكرية، وأعبائها في ظل الحصار
الاقتصادي المفروض على روسيا، وحرب أسعار النفط التي تقودها السعودية، ومن
خلفها الولايات المتحدة.
المنحى الإيجابي للهدنة كان ضيّقاً. ومع ذلك وجد الأسد أنها سمحت بتركيز
الجهود لتحرير تدمر. الإشارة تستحق التوقف عندها، لا سيما أن التقديرات
الحقيقية السورية ترى أن المكاسب المباشرة من عملية تدمر لا تزال بعيدة عن
الحسابات الأولية، وأن إضعاف النفوذ التركي في الشمال، وضرب المجموعات
المسلحة الأخرى، كان حتى شهر شباط الماضي يتقدم على ما عداه، قبل أن تبدأ
الولايات المتحدة بتطوير الحرب نحو السباق على الستين في المئة من مساحة
سوريا التي يحتلها تنظيم «داعش»، عبر دعم «وحدات حماية الشعب» الكردية في
هجومها نحو منبج، والباب.
إن حيازتها أكثر من نصف سوريا، وانتزاعها من «داعش»، يعوّض واشنطن عن
المراوحة المستمرة حول حلب منذ أربعة أعوام، وهزيمة «جيش الإسلام»
والمجموعات السعودية، في اختراق دمشق عبر الغوطة، أو بواسطة عواصف الجنوب
المتتالية، التي هبّت الصيف الماضي، على حوران من غرفة عمليات عمّان، لكن
من دون أن تزحزح الفيلق الأول السوري عن خطوط دفاعه الأولى في درعا متراً
واحداً.
الهامش السيادي السوري كان بارزاً أيضاً في العودة إلى الإصرار على الحسم
العسكري. انطوى الخطاب الرئاسي على استدراك لما فات كلامه، أمام نقابة
المحامين قبل أربعة أشهر، عندما قال إن الحرب لن تتوقف قبل تحرير كامل
الأراضي السورية. وهو المطلب الذي رأى فيه الروس، وأولهم مندوبهم لدى الأمم
المتحدة فيتالي تشوركين، خروجاً عن التنسيق، وتعارضاً مع الأهداف التي
وضعها الروس لـ «عاصفة السوخوي»، بتحريك الميدان وتغيير الخطوط والموازين
العسكرية بما يكفي لإطلاق عملية سياسية، تديم وصاية روسيا على سوريا،
بتكاليف اقل من المعلن. الرئيس قدم لحلفائه، هذه المرة التباساً، في الطريق
إلى حسم عسكري غير ممكن من دونهم، وربما معهم، في إعلانه تزامن الحرب
للقضاء على الإرهاب بمسار سياسي.
الأسد، مع ذلك، وضع الحسم العسكري أفقاً وحيداً للحرب السورية، إذ انه لم
يجد، وقد لا يجد، في وفد الرياض شريكاً في الحوار أو الحل في جنيف.
ولا تزال ورقة المبادئ، التي وضعها بشار الجعفري على طاولة المبعوث الاممي
إلى سوريا ستيفان دي ميستورا في جنيف، قاعدة لأي حل سياسي، فيما لم تجد من
يرد عليها إيجاباً أو سلباً في جنيف. كما أن الأوراق البديلة، والأسئلة
التي تقدم بها الوسيط الاممي إلى دمشق، بحثاً عن قواسم مشتركة مع معارضة
الرياض، ليست «أكثر من أفخاخ» مسمومة.
الرئيس السوري لم يقدم مع ذلك رؤية جديدة متكاملة للحل، لأن مفاتيحه لم تعد
كلها في سوريا، إذ أن حرب الأعداء حتما، وحتى بعض مساعي الحلفاء لا تصب
كلها في اتجاه مضاعفة القوة الداخلية السورية، من المعارضة والنظام على
السواء لاجتراح حل بعيد عن وصايتهم، كما تعكسه الإستراتيجية الروسية في
سوريا حتى الأسابيع الماضية، في التعاطي مع قضايا الهدنة أو الأولويات، أو
صياغة دستور جديد.
لكن الأسد لا يزال يحتفظ ببعضها، وخصوصاً الدستور، ذلك أن ابرز ما تناوله
الرئيس لنزع اخطر ما يمكن أن تذهب إليه سوريا، هو رفض كل ما تم تداوله
علناً، أو سراً، من المبادرات، القديم الإيراني الذي تحدث عن محاصصة طائفية
من دون أن يتبلور في مبادرة متكاملة تم سحبها على الفور، أو في الجديد
الذي يتحدث في جنيف، أو موسكو عن مقاربات للفيدرالية أو الطائفية.
سيحسب للرئيس السوري في ميزان الصراع، والتاريخ، رفضه أي محاصصة طائفية،
وأي دستور يرسي ما رآه غرب سوريا في لبنان، أو شرقها في العراق، من دون أن
يسميهما في خطابه، من نماذج تستولد حروباً أهلية لا نهاية لها، وتفضي إلى
عداوات بين مكونات المجتمع السوري، وفرض القوى الخارجية وصايتها عليها،
ومصادرة القرار الوطني، وتقسيم سوريا.
الأسد تولى أيضاً قطع الطريق، حتى الآن، على توقعات بانفتاح قنوات تواصل
تركية ـ سورية، بعد حديث رئيس الحكومة التركية بن علي يلدريم عن «الحرب
العبثية» في سوريا. ويذهب تخصيص الأسد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان
بأوصاف الفاشي والأزعر السياسي والبلطجي، باتجاه معاكس للتفاؤل الذي ساد
بقرب انعطاف تركي يطال سوريا، مع وعد بأن تكون حلب مقبرة أردوغان.
ورأت واشنطن أن تعهّد الأسد باستعادة «كل شبر» من سوريا ليس أمراً مشجعاً،
داعية روسيا وإيران إلى الضغط على دمشق لاحترام وقف إطلاق النار.
واعتبر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مارك تونر أن الخطاب لم يكن
مفاجئاً، ووصفه بأنه «حصيلة ما قام به الأسد»، مضيفاً أن واشنطن ستدعو
روسيا إلى كبح حليفها. وقال «ما زلنا نعتقد أن روسيا وإيران قادرتان على
الأقل على توجيه نداء إلى أولئك الموجودين في النظام ليمنعوه من السماح
بالسقوط التام لاتفاق وقف الأعمال القتالية». وتابع «أكرر، أن ليس هناك ما
يثير الدهشة في ما قاله، ولكن كما تعلمون، لم يكن مشجعا».
من جهته، قال المتحدث باسم الرئيس الأميركي جوش إرنست إن تمسك الأسد
بالسلطة «يفاقم الفوضى والاضطراب»، معتبراً أن لدى الرئيس الروسي فلاديمير
بوتين القدرة على تغيير حساباته. وقال إن «الرئيس بوتين التزم باستخدام
نفوذه لدفع نظام الأسد إلى الالتزام باتفاق وقف الأعمال القتالية».السفير
التاريخ - 2016-06-08 5:36 AM المشاهدات 787
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا