للعام الثالث على التوالي، يحضُر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.رئيس جمهورية يتوجه إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك لحضور دورة الانعقاد العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة. الأمر يبدو بسيطاً، بل ونمطياً جداً، ولا يتضمن أيَّ معنى خاص، فحضور الاجتماع متاحٌ لكل رؤساء وحكام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، ما لم تلاحقهم اتهامات المحكمة الجنائية الدولية، وليسوا مطلوبين في جرائمَ ضد الإنسانية.ولكن في مصر جرى التعامل مع الأمر تعاملا مختلفا. فقد اعتبر حضور الرئيس المصري اجتماع الجمعية العامة بمثابة حدثٍ خاص، يستدعي ترتيبات استثنائية، تمثلت في تعبئة إعلامية مسبقة، انصبت على أهمية حضور السيسي الاجتماع السنوي، وتأثير ذلك على صورة مصر في العالم وعلاقتها الخارجية ودورها في السياسة الإقليمية والدولية، كذلك عبر حشد بشري تمثل في وفدٍ ضخم ضمّ إعلاميين ونوابا وشخصيات عامة ذهبت لدعم الرئيس في زيارته نيويورك.الاجتماعان السابقان اللذان حضرهما السيسي صاحبهما الحشد والتعبئة. ولكن هذه المرة قد يكون الأمر مختلفا نسبياً. ففي العام 2014، جاء الاجتماع في أعقاب تنصيب السيسي رسمياً رئيساً للجمهورية. وكان اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة فرصةً لتقديمه للعالم كرئيس منتخب وليس كوزير للدفاع. وحشد شخصيات عامة ورعايا مصريين في الخارج كان يهدف إلى إظهار شعبيته، كرئيسٍ منتخب بأغلبية كاسحة، في مواجهة اتهامه بالانقلاب على رئيس منتخب.ولكن استمرار هواجس الانقلاب والحاجة لصناعة حشدٍ في غير محله هو الأمر الذي يبعث على التساؤل حول الضجة المصاحبة لحضور رئيس جمهورية اجتماعاً عادياً.الطريقة التي تمّ بها الحشدُ أيضاً لم تخل من سقطةٍ جعلت تلك المرّة مختلفة عما سبقها، فالكنيسة القبطية وجهت علنا أقباط المهجر للحشد في نيويورك لدعم السيسي ومساندته، ما أثار استياءً حتى بين الأقباط الذين رأوا في ذلك ليس فقط توظيفاً للمؤسسة الدينية في السياسة ولخدمة السلطة مباشرة، ولكن أيضاً تعاملا غير لائق معهم.ورغم تبرير البابا تواضروس لموقف الكنيسة، في تصريحات صحافية، بأنه موقف وطني وليس سياسيا، وأن الكنائس في الخارج يجب أن تكون سفارات لخدمة الوطن، إلا أن هذا الحديث لم يبدُ مقنعاً للجميع، حتى أن بياناً وقّع عليه ما يقرب من 800 شخص من أقباط ومسلمين صدر لرفض حشد الكنيسة لتأييد السيسي في نيويورك جاء فيه «لا يصح أن نقبل ان تقوم الكنيسة سواءً بناءً على عمل طوعي منها أو بطلب من النظام، وأن تتعامل مع المواطنين المصريين المسيحيين بمنطق الشحن والتعبئة»، موضحاً «إننا نؤكد إيماننا بحرية الرأي والتعبير للجميع في إطار سياسي مدني غير موجه من قبل مؤسسات دينية، ونشدد على رفضنا أن تتصدر الكنائس المصرية مشهد الحشد والتعبئة لتظاهرات، سواء داعمة أو مناهضة للرئيس، وهو أمر يُمثل خروجاً عن القواعد الديموقراطية وإقحاماً للدين في السياسة».وأشار البيان إلى أنه رغم العلاقة الدافئة بين النظام القائم والكنائس المصرية، ظلّ بسطاء المواطنين المسيحيين، وخاصة في القرى والنجوع ومحافظات الجنوب، يعانون من العنف الطائفي والتمييز. ولم تختلف سياسات النظام الحالي في التعاطي مع أحداث العنف الطائفي المختلفة التي تمسّ مواطنين مسيحيين، عن سابقيه، ولم تختلف نتائجُها ومردودها عليهم، فظلّت منازل ومتاجر المواطنين المسيحيين عرضةً لهجمات المتطرفين، وظلّت أزمات بناء الكنائس حاضرة بقوة».المحاولات المستميتة من قبل النظام ومؤيديه لإظهار شعبيته بدت إشارةً فارغةً من أي مضمون. فأي مراقبٍ للأوضاع في مصر، يَسهُل عليه ملاحظةُ تصاعد عدم الارتياح في أوساط عدة، سواء بسبب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي أضافت أعباءً غير محتملة على كاهل الطبقات المتوسطة والفقيرة، أو بسبب أوضاع الحريات والملاحقات الأمنية، أو بسبب السياسات الخارجية التي قلّصت دور مصر إقليمياً حتى كاد النظام يتخلى عن جزيرتين مصريتين للسعودية لولا ردود الأفعال الشعبية الغاضبة. والأكثر لفتاً للانتباه هو أن الأقباط من أكثر القطاعات تذمراً من النظام، فبعدما بذلت الكنيسة جهداً كبيراً في دعم النظام، لم ينجُ الأقباط من الاعتداءات والاضطهاد، ولم يحدث تحسن حقيقي في الأوضاع الطائفية مثلما أورد البيان.لم تكن إشارة الحشد والتعبئة هي الإشارة الوحيدة الخالية من المضمون في زيارة السيسي لنيويورك. فكلمة السيسي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حملت أيضاً الكثير من الإشارات التي لم يصاحبها مضمونٌ حقيقي. لقد تحدث السيسي عن أزمات المنطقة في اليمن وسوريا وليبيا والعراق، وضرورة تسويتها، في الوقت الذي يتراجع فيه الدور الإقليمي لمصر وتقل أدواتها للقيام بدورٍ مركزي في المنطقة.وربما كان النداء الذي وجهه السيسي في كلمته لـ «الشعب الإسرائيلي» هو الأكثر تماشياً مع ما أعلنه مرات عدة من ضرورة توسيع معاهدة السلام لتشمل دولاً عربية أخرى، والدور الذي يلعبه النظام المصري في تسويق تسويةٍ للصراع العربي - الإسرائيلي.وخلال جلسة خاصة لمجلس الأمن عقدت أمس حول سوريا، شدد الرئيس المصري على أن «كل من يراهن على التنظيمات الإرهابية في مستقبل سوريا واهم، وكل من يراهن على حسم عسكري في سوريا خاسر».ودعا السيسي المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا إلى توجيه الدعوة للمفاوضات «في أقرب وقت ممكن»، معتبراً أن «النقاط العامة في سوريا لا يوجد فيها خلاف، لكن ترجمتها تقتضي إعلاء الوحدة واستثناء التنظيمات الإرهابية التي يمكن أن يكون لها مكان في سوريا التي نتمناها، لذلك فإننا نرفض تماما أي محاولات للالتفاف حول قرار مجلس الامن، ولا بد ان نعترف بأن الوقت ليس في مصلحتنا وجرح سوريا غائر».ولفت إلى أن الوقف الشامل لإطلاق النار في سوريا هو السبيل الوحيد لوقف نزيف الدم المستمر.وكان السيسي قد وجه من على منبر الامم المتحدة أمس الاول نداءً «الى الحكومة الاسرائيلية والشعب الاسرائيلي للتوصل الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين».وقال السيسي «اسمحوا لي أن أخرج عن النص من خلال هذا المنبر الذي يمثل صوت العالم بتوجيه نداء عاجل للشعب الإسرائيلي والقيادة الإسرائيلية لإيجاد حل للقضية الفلسطينية»، معتبراً ان «لدينا فرصة حقيقية لكتابة صفحة رئيسية مضيئة للسلام في المنطقة، والتجربة المصرية رائعة، ويمكن تكرارها مرة أخرى بحل مشكلة الفلسطينيين وإقامة دولة فلسطينية بجوار الدولة الإسرائيلية»، لافتاً الى ان حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي «سوف يقضي على أحد أهم عوامل عدم استقرار المنطقة وعلى إحدى أخطر الذرائع التي يتم الاستناد إليها لتبرير أعمال التطرف والإرهاب».بالإضافة إلى ذلك، عقد الرئيس المصري العديد من اللقاءات مع رؤساء دول ورؤساء وزراء فرنسا وبريطانيا ورومانيا ولبنان وفلسطين والأردن والعراق واليمن وقبرص والنمسا، والعديد من المسؤولين، فضلاً عن لقائه بمرشحي الرئاسة الأميركية، دونالد ترامب وهيلاري كلينتون. وبخلاف لقائه بترامب، الذي لطالما أبدى إعجابه بأنظمة «الرجال الأقوياء» بحسب ما انتقده امس الأول الرئيس الاميركي باراك اوباما، يحمل اللقاء مع كلينتون مغزى خاصا، إذ لطالما تصفها «نظريات المؤامرة» المصرية بأنها داعمة لـ «الإخوان المسلمين»، ويعتقد مسؤولون مصريون أن وصول محمد مرسي إلى سدة الرئاسة في العام 2012 حصل بضغط من وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، التي عملت ولو بطريقة غير مباشرة على تأكيد هذه النظرية بزيارتها القاهرة بعد اسبوعين فقط من فوز مرسي.ولفت انتباه الكثير من وسائل الإعلام المصرية ما أعلنه الرئيس المصري من أنه سلّم وزير الخارجية الأميركي قائمةً بأسماء المفرج عنهم والحاصلين على عفو من الرئاسة، في ما يبدو رداً منه على انتقادات تتعلق بحقوق الإنسان، خاصةً أن توجه السيسي إلى نيويورك سبقه صدور قرار قضائي بالتحفظ على أموال حقوقيين وثلاث منظمات حقوقية، ضمن محاكمتهم بتهم تتعلق بتلقي تمويل من الخارج، وربما كانت تلك هي الإشارة التي حملت مغزى واضحاً، ولكنه يتناقض مع كل ما يروجه النظام عن نفسه.
التاريخ - 2016-09-22 6:23 AM المشاهدات 479
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا