قراءة في قصيدة: قضية مستعصية.للشاعرة عليا عيسىكل صناع الحرف او منتجي الكلمة لا يستطعون الانتاج والتوفيق بين ضبابية الواقع وشاعرية اللغة... الواقع هو حكمة مغلفة ومعقدة -تشبه كليلة ودمنة مثلا- لأنه يحمل بين طياته تجربة وموعظة واشارات لأولى الالباب.. لهذا فصناعة الحرف وانتاجه ليست متوفرة لدى طابور حاملي ريشة الابداع بكل اطيافهم وألوانهم التعبيرية..!اللغة مفتاح القصيدة، ووعيها الذي يجنح بتفكير المتلقي الى عوالم اخرى لا حدود لها، ليستشف وعيا اخرا متصلا بواقع الحياة. يبحر القارئ، وحده في بحور القصيدة، جاعلا من اللغة تيارا يسري به لشرح حقائق و نظريات مجردة -واحيانا مسلمات ورثها وحفظها عن ظهر غيب، دون ان يسأل عنها فتصبح مسلمات لا غبار عليها- فيعيش في عوالمها، وكأن القصيدة موجهة إليه وحده دون غيره.. لتصبح القصيدة وسيلة للتفكير والتخيل، لدى الشاعر او القارئ معا..تبقى القصيدة العربية الحديثة المعاصرة في اساسها وبنائها ذاك التزاوج بين النثر والشعر... وعلى الشاعر المعاصر ان يتمسك بوحدة قصيدته انطلاقا من اللغة المستعملة كبويضة في رحم وحدة القصيدة: من صور وتداعيات رؤيته الفلسفية، وصداه. الداخلي.. ليصل الى تجربة ابداعية تنقل صور الواقع الى الجمهور داخل قوالب محددة/متغيرة فتتداخل فيها الاراء والذات والرؤية والرسالة والتحريض على السؤال..الشاعرة السورية -عليا عيسى- نجحت في قصيدتها (قضية مستعصية) ان تستوفي شروط القصيدة الحديثة المعاصرة، وزاوجت بين النثر والشعر بلغة سهلة ممتنعة...تمكنها من مفتاح القصيدة : اللغة -كما اشرت اعلاه- كريشة رسام ، فغمستها داخل علبة اركان القصيدة الحديثة والوان الواقع : الصورة/التكثيف/الانزياح/الحكمة/الموعظة/التشظي/الحذف/القطع/التشذير/ الحوار الداخلي/الفلسفة/الانسان/الايحاء/الاماني/الموت/الحياة/الحب/العرف/الكره.. والاهم هو السؤال الجوهري..بشكل محترف ومدروس تسأل وتجيب، تهدم وتشيد، تبوح بالمسكوت وتصور زنازين الخوف ومشانق الاحكام.. وظفت التشظي كفوضى منظمة ومدمرة في آن واحد، بفنية عالية وقدرة فائقة بادوات خصوصية تجمع بين الحكمة والخاطرة، احيانا..كل ما سبق ذكره يجعل من الصعب الحديث عن كل تلك الالوان التي تحبل بها قصيدة الشاعرة عليا عيسى، وسأحاول جاهدة. تسليط الضوء على أربعة محاور رئيسية في قصيدتها من خلال هذه الورقة على امل العودة لقراءة اخرى واستخراح الوان مازلت تنز من عبق قصيدة اقل ما يمكنني ان اختزله كعنوان لها... رائع وجدا.. قضيتنا المستعصية على عقليتنا الذكورية..!!التشظي:على غرار رواد القصيدة الحديثة كأدونيس و امل دنقل و صلاح عبد الصبور و محمود درويش وغيرهم، اقتحمت الشاعرة عليا عيسى عالم الغياب و التشظي كمفهوم اكثر اتساعا وعمقا في شعرها وربطته بحياتها الواقعية، كدلالات تعبيرية ومكونا اساسيا وبعدا محوريا للأنثى من نسيج العالم الواقعي الحديث او المعاصر، واضحى وجودها الانساني كالاشباع الروحي مثلا، يمتاز بكونه حاجة ملحة، حاضرة، مبعثرة، متشظية وممزقة الاوصال ومشحونة بالتناقضات والمفارقات.. و كذا احكام المجتمع الذكوري، والقبلي..حالة العزلة والحرمان من خلال اشكال تعبيرية كثيفة في قصيدتها (قضية مستعصية) أسلبة الإنشطار والغياب وشكلتها تشكيلا موازيا لمضمون البوح/القصيدة. واستطاعت ذاتها/الأنا الغائبة المتشظية ان تعثر على حضورها الاسطوري عبر بلاغة اللغة و سلاسة الكتابة.. غدت القصيدة أو الكتابة لديها ملاذا وخلاصا و اشباعا نفسيا وروحيا من التشظي (التشرد العاطفي و الانساني في منفى الحاجة الملحة لرفيق عمرها، وما تركه في نفسيتها وواقعها من غياب حقيقي امام للواجبات الملحة للجسم البشري)..الحذف:بسبب اتساع رقعة الحاجة وكثرة الضجر والتوجع و تشظي الزمن ومفارقاته عند الشاعرة، اصبحت تمارس الحذف كآلية من أليات كتابة القصيدة، على نمط الكبار، كما اسلفت سابقا، لتعكس رغبتها الملحة ونزوعها العميق نحو استبعاد أسئلة الواقع الملموسة و كرماح قاتلة من مجتمع شرقي محافط إن لم نقل متطرف في احكامه لكل ما هو انثوي، كذات وكيان بجل مكوناته المتشظية، وتؤكد ما ليس ملموسا عبر قلب المعادلة بالسؤال والجواب الذي يطمئن شريحة واسعة من القراء دون لفت انتباههم واستفزازهم..التشذير :ارتبط التشذير -أو ما يعرف عند النقاد بالتقطيع،رغم انها تختلف في القطع النحوي من باب النعت، وعن القطع البلاغي في باب الحذف- في مجال الكتابة الشعرية بالتعبير عن أزمة الذات وتشظيها وتفككها في مجتمع يطبعه التشظي والتفكك.هذا النمط من الكتابة الشعرية يؤثر في القارئ اكثر مما يؤثره في السامع، لان الايحاء المقصود هو اسلوب اثارة القارئ بنمط الكتابة بالتأثير كما في الفنون التشكلية البصرية التي تركز على حاسة البصر..فالشاعرة رسمت بالكلمات والعبارات صورا مخالفة لاسطر تعودنا قرائتها، مما تؤدي الى التأمل البصري التشكيلي الذي يستدعي وقوفا امام النص/القصيدة مدة اطول، لتعيد القراءة مرات و مرات، لتجعل من القارئ شاعرا، يعيد رسم صور إن لم نقل تناصا خياليا، والهاما لاعادة صياغة قصيدة او بيت على طريقته..هذا التشذير يؤدي وظيفة التجزؤ والتفتيت وانحلال الوحدة الموحدة للقصيدة لدى القارئ المحترف خاصة..إذ بتبطئ سير عين القارئ للنظر المكثف للغة الكتابة في الرسم التشكيلي الصوري/القصيدة يرغم الدهن على التوقف امام المحسوس، وتلزمه صياغة المعنى..وهذا تمييزا ودلالة وعنصرا يحتسب للشاعرة التي استطاعت تبليغ شفافية الرسالة التي تؤرقها الى مجتمع تخاف ردة فعل الرعاع او المحافظين الجدد، بمواصفات اللغة والخطاب المنتقاة بعناية.. غير متطرفة.. القطع :القطع هو شبيه التوضيب في عالم الفن السابع، هو لقطة كأصغر وحدة في تقنية تركيب الافلام..تقنية تملكتها الشاعرة عليا عيسى بدقة مخرج عالمي، ينتقل بين اللقطة و اللقطة لتشكل لنا ربطا ودلالات لتكتمل الفكرة والصورة على الحكاية النص/الرسالة..رغم ان تقنية تركيب الابجدية اكثر تعقيدا وصعوبة من تركيب لقطة الفيلم.. فاليراع ليس هو الة تصويروالسبب اللغة الشعرية اكثر غموضا من تصوير مشهد قائم، فحين تختفي ادوات الربط او تنحرف شعرية الكلمة تتباعد الدلالة او المغزى يصبح اكثر صعوبة عند المتلقي، إلا ان الشاعرة تمكنت باريحية واضحة من ربط الصور الشعرية عن طريق العزل و الاختيار وعالجته بالبلاغة الانسيابية و صدى الغزل المتخفي بين السطور، وكذا الاستعارة والمجاز على مستوى كل مقطع/لقطة.. عجلت باقامة وحدة باطنية للمقاطع الشعرية كاملة تتحقق فيها تجانس التجربة النفسية والفكرية..اعتمدت (-)كإشارة متعارف عليها في الحوار داخل النصوص، لتردم فجوة ابتعاد المقاطع وخلق مسافة بين اللغة المترسبة وبين اللغة المبتكرة في مكوناتها الاولية وفي بنائها التركيبة وفي صورها الشعرية..ختاما، شكرا عليا الحرف على هذا الحرف الباذخ..القصيدة:#قضية_مستعصية-مصابةٌ بالمحظوراتِطريقُ وصولي إليكموجوعةٌ المسافاتُ بداءِ ضبابٍ عضالصواعقُ الممنوع تُعمي مرايا اللقاء-وبينما أسماؤنا بلا رخصٍ تسوقُ أحلامَهايُباغِتُ قواعدَ عشقِنا الأربعين منعطفُ المشيب -أكلّما حاولتُ استنشاقَ حضوركتنتابُني غَيبوبةُ التأجيلتسدُّ رئتيّ سباباتُ اللايجوزأصابُ باحتشاءِ الحنينوأهذيكَأهذيك دونَ أملٍ بعناقٍ يُسعِفُ الأحلام-هي ضريبةُ امرأةٍشرقيٍّ نقشُ قِماطهاأثوابُ جسدها كاسدةٌ في أسواقِ ذكورةِ الأعرافِلحين خَلوةٍ مُفتَى بشأنهاعن سبقِ وأدٍوأدٌ طويلةٌ أعمارُ أكفانِه-قالوا : يداك محلّلتانِ لدقِّ مساميرَ القوّامينَ بنعشِ عُمْرِكوالقِصاصُ ...للرّائبين !-يا أنتَأقبلْ قابَ جريمةٍ و لعنةٍنخلعُ ميثاقَ القطيعِنهربُ من تحنيطِ الخائفينفالموتُ يا رفيقَ الرّعشةِنديمُ الجبناء-هناك ....سأعتصرُ صَوَّانَ القدرِلأصنعَ إكسيرَ معجزةٍلصباحاتِنا صباحاتٌ صائمةٌ عن مطرِ ثغرينا- أُحطمُ أجراسَ التأنيبِ في جبِّ تردّدٍ أحمققد أدمى أذنيَّ صراخُ نحرِ أحلامِنا بعُمقهِ-سأسبغُ على الزّمن رُقيَةَ يوسفَليطيبَ سمُّ الوقت في محطةِ انتظاري لقافلةِ التلاقي-هل كُتِبنا ؟...المصلوبين فوقَ أفخاذِ وبطونِ القبيلة ؟شُبّه لهم !ما علموا أنَّ طيفَكَ لا زالَ يشرقُ بأضلاعي بيُؤَذِّنُ للفصولِيُثيرُ ربيعا استنكفَ إقصاءَهُ-تتساقطُ نوتاتُهُ ممزقةً صكَّ صمتيفتستيقظُ في بحيرةِ سكونيدوائرُ عودةِ الحياةتكبرُ و تصغرُلكنَّها... فوقَ صدرِكَ رفعَتْ صُواعَ عشقِهاو أعلنَتك نبيَّ خاتمةِ الطريقِ********غادة سعيد03/12/2017
التاريخ - 2018-01-15 12:24 AM المشاهدات 1374
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا