شبكة سورية الحدث


خيانة ذاكرة ..... بقلم تغريد قطريب

خيانة ذاكرة ..... بقلم تغريد قطريب
عندما أغلق والدي باب السيارة ، كنت قد ركعت على المقعد الخلفي وقد عانقت مسند الرأس . بدأ طيف "عبودي" يصغر رويداً رويداً, بينما تتلاشى كلماته في مسمعي ولم يتبقَّ منه سوى يديه الملوحتين ودميتي التي تركتها معه للذكرى .كنت صغيرة جداً لأفهم ذلك الشعور المؤلم الذي بدأ يشق طريقه في قلبي وفي روحي ، لم أكن بعد قد عرفت ما يعنيه الفراق أو الغربة أو الاشتياق ، تلك المصطلحات التي بقيت مجهولة لدي لوقت طويل قبل أن اكتبها قصائد طويلة موجعة .كل الأشياء الحبيبة كانت تصغر كلما ابتعدت السيارة عن القرية : بيتنا ، شجرة الكرز شحيحة الثمر ، طاحونة البرغل وبركة الماء الملاصقة لجدارها الشمالي ، دكان أبي سليم ذلك المكان الذي لطالما تمتع برائحة مميزة تختلط فيها عطور الصابون المختلفة مع رائحة الحلوى الشهية ... لم يسلْ لعابي كالعادة وأنا أتذكر علب البسكويت المغطس "بالشوكولاتة " ، بل أصابني شعور بالانقباض في معدتي وشيء من الجفاف في حلقي .كان "عبودي" مازال يلوح بيديه حاملاً دميتي الحبيبة "فرتوكة" .( هذا كان اسمها الذي اتفقنا عليه أنا وعبودي مستوحين اسمها من حجمها الصغير ) ، وفي ذاكرتي الغضة تلوح آلاف الصور الملونة بألوان الضيعة الندية وحقولها وكرومها وبيادرها , وبيوتها العتيقة ذات الحجارة السوداء .. و"عبودي" رفيقي الجميل ذو العينين الخضراوين والبشرة البيضاء كالجبن البلدي .. لم نختلف يوماً ، لم نتشاجر كباقي الأولاد ، كان طفلاً هادئاً لطيفاً بالرغم من الشقاوة التي يظهرها في اللعب ، كان حنوناً كأب صغير .. أحببت "عبودي" ، بل ربما أغرمت به . ولم أكن بعد أدرك تلك المشاعر ،أو أفهم ماهيتها ، إلا أن مسند الرأس في سيارة والدي عرق من عناق يديّ وتبلل من دموع ذرفت للمرة الأولى .ومازالت يد "عبودي "ودميتي تلوحان في خيالي . واستمرّتا كذلك لزمن طويل قبل أن أقرر العودة مجدداً .لأسلك نفس الطريق .في هذه المرة عانقت مقعد سيارتي بفرح أردت بكل ما أوتيت من أمل أن أجد ذاكرتي بانتظاري ، وصور كثيرة تسبق خيالي لترسم على جدران منزلي العتيق قصة حبي الأول .ركنت سيارتي في أول الطريق المؤدي إلى حيّنا القديم ، وقد تسارعت ضربات قلبي كمطر عاصف ، مشيت على مهل وأنا أتفحص كل تفصيل على الدرب .. لتبدأ مخيلتي بإسقاط أولى الذكريات أمام عيني واقعاً حقيقياً .كان دكان أبي سليم أول الصور التي طالعتني ، وقد بدا أكبر وأنظف وتحول بابه الخشبي إلى باب من الحديد "المجلفن" .. لم يكن أبو سليم يستلقي على ذلك " الدشك " الخشبي وقد علا شخيره ، بل تمطّى قطٌّ عجوز بتكاسل فوق كرسي من البلاستيك المدوّر .ومن دون تردد قررت أن أدخل المحل علّني أجد شيئاً يدلني على أبي سليم ، لكني تراجعت حالما رأيت رجلين جالسين بانتظار كرسي الحلاقة لتفرغ .أخذت نفساً عميقاً ورحت أبحث عن الصورة التالية، وقد تلاشت في أنفي رائحة "الشكولاتة" الممزوجة بعطر الصابون. أين هي بركة الماء الملاصقة لجدار طاحونة البرغل ؟؟ هي أيضاً لم تعد موجودة، فهناك من استبدل البرغل البلدي بأكياس مختومة من الحبوب المعلبة . وبيتنا ... ؟؟ ذلك الركن العزيز الذي استأجره والدي منذ أكثر من عقدين بألف ليرة .؟؟ وشجرة الكرز .. ؟؟ التي شهدت شقاوة طفولتي ، وأكاذيب حيكت تحت ظلها الصغير لدرء عقوبة الأهل من إساءة ما، وجذعها الذي اعتصرنا من نسغه أسماء حفرت لتدوم الذكرى .بدأ القلق يتسرب إلى نفسي ،وشعور بالخيبة يلوح أمام عيني ، عندما وصلت إلى ذلك المكان الحبيب ووجدته وقد استحال بناء ضخماً، بطوابق متشابهة صفراء كجثث باردة، وكأنها هياكل صماء فقدت الحياة، أو ربما فقدت الروح .تقدمت بخطىً بطيئة في محاولة مني لاستبقاء ما تبقى من أمل في نفسي، لأتعثر في كل خطوة وقد هرمتُ فجأة . وعلى مسافة غير قريبة من خيبة أخرى، رف في قلبي مشهد لطفلة تلهو بشيء صغير بين يديها . اقتربت منها وقد لاح في عيني دفقٌ عبقٌ من روح الماضي، وأنا أرى شيئها الصغير يتحول فجأة إلى صغيرتي " فرتوكة" تلك الدمية التي أودعتها بين يدي "عبودي" أمانة وذكرى . نظرت في عينيها الخضراوين ، قرأت تاريخاً لم أعشه، تاريخاً خُطَّ من دوني ولكني كنت فيه بطريقة ما ، قرأت حبي الأول .. وشقاوة روحي .. وألق طفولتي .. وبعد .. قرأت عمراً كاملاً مرّ وأنا أخط في كل ليلة منه سيناريو للقائي بطفولتي وبـ" عبودي " . خلعت حزني لبرهة وأنا أنشد سلاما ما في مخاطبة تلك الطفلة :- مرحبا يا حلوة ... شو إسمك ؟بالتفاتة استغراب بريء .. وبصوت طريّ كيمامة :- سارة ...حلّقت روحي في فضاءات من فيروز لتعود فتركع ملاصقة جسدها الغض ، قبّلت وجهها الذي بدا كقطعة من الجبن البلدي وقد شعرت بدفء يجدد في أوصالي حياة كاملة :- بتعرفي أنو اسمك متل اسمي ...؟؟ابتسمت وقد لمعت في عينيها تلك المفاجأة التي تشبه لعبة الغميضة :- قلي بابا أنو هيدا الاسم هو أحلى اسم بالعالم .. وأنو هوي نقالي ياه من وقت كان زغير ...عدت للتحليق بكل أجزائي المتناثرة على أنقاض ذلك المكان :- ياعمري أنتي ...عانقت الجسد الصغير بكل ما أوتيت من حب، أردت أن أذوب بتلك الحلاوة التي تدفقت دفعة واحدة من عينيها ووجنتيها .. قبلتها ألف مرة .. وقد خيل لي أني أرى وجه "عبودي" يختال في كل زاوية من زوايا ذلك المكان، رأيت يده تلوح وروحه تسبق عينيه لتستقبل روحي . تركت لها بعضاً من قطع الشكولاتة، ورحلت عن ذلك المكان الذي لم يعد كما كان، بل بقي في ذاكرتي يصلي ويجعل مني أيقونة أدركت لاحقاً أنها استهلكت عمراً كاملا من عمري لتنال قدسيتها في عيني "عبودي" لم أشأ أن أنال من إلوهيتها .عانقت الجسد الصغير .. بكل ما أوتيت من حب .. أردت أن أذوب بتلك الحلاوة التي تدفقت دفعة واحدة من عينيها ووجنتيها ... قبلتها ألف مرة .. عانقت فيها ذلك الحب الذي ولد فيّ قبل أن أولد .. كان قلبي يشم عطراً حبيباً .. عطراً لذيذاً كالبسكويت المغطس بالشوكولاتة .. خيل إلي و قبل أن أترك لها بعض قطع الشوكولاتة أني أرى وجه عبودي يختال في كل زاوية من زوايا ذلك المكان ...رأيت يده تلوح وروحه تسبق عينيه لتستقبل روحي ... وقبل أن أهم بسؤالها عن والدها .. شيء ما جعلني أعدل عن ذلك .. ربما أردت أن احتفظ بوجه عبودي في ذاكرتي كما ألفته .. ربما خفت عليه من ذلك السيل الذي أطاح بكل مشاهد الحنين التي انهارت دفعة واحدة منذ أن وطئت قدمي ارض قريتي رحلت عن ذلك المكان الذي لم يعد كما كان والذي حرصت على الاحتفاظ بما تبقى منه في ذاكرتي صلاة عشق جعلت مني أيقونة ..أدركت لاحقاً أنها استهلكت عمراً كاملا من عمري لتنال قدسيتها في عيني عبودي لم أشأ أن أنال من ألوهيتها ... تغريد قطريب
التاريخ - 2016-12-04 5:21 PM المشاهدات 2144

يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرامانقر هنا