بقلم:
عبد الباري عطوان
جاء اعلان جون كيري وزير الخارجية الامريكي الذي اعترف فيه في مقابلة مع محطة تلفزيون “سي بي اس″ الامريكية (الاحد) “ان بلاده ستضطر في النهاية الى التفاوض مع نظام بشار الاسد من اجل الانتقال السياسي” اجمل “هدية” الى الرئيس السوري وجيشه وقاعدته الشعبية وحلفائه ومؤسسات حكمه في التوقيت الامثل وبالتحديد يوم دخول الازمة السورية عامها الخامس، كما انه اقسى صفعة للمعارضة السورية المسلحة والدول الخليجية الداعمة لها بالاسلحة والمليارات، والاكثر ايلاما منذ بدء الصراع.
المفاجأة في هذا الاعلان انه جاء بعد اقل من اسبوعين من اعلان آخر للرئيس الامريكي باراك اوباما الذي اكد فيه ان الرئيس الاسد فقد شرعيته ويجب عليه الرحيل، وبعد تزايد الاحاديث والتسريبات الصحافية حول عزم الادارة الامريكية البدء في تدريب وحدات من المعارضة السورية المعتدلة في تركيا والسعودية وتزويدها بأسلحة نوعية في اطار مخطط لزيادة الضغوط على النظام.
علمتنا التجارب ان السلطات الامريكية، مثل كل نظيراتها الغربية، تعتمد مبدأ التدرج عندما تشرع في اتخاذ مواقف تراجعية حادة، وتلجأ الى اطلاق العديد من بالونات الاختبار قبل الاقدام عليها تمهيدا لها، ولذلك لم يخامرنا ادنى شك بأن المبعوث الدولي ستيفان دميستورا لم يكن يمثل نفسه عندما فاجأ الجميع بقوله، وبعد اجتماع مطول مع الرئيس الاسد قبل شهر في دمشق، بأن الاخير جزء من الحل السياسي للازمة السورية، ثم تلا ذلك، وسار على الدرب نفسه، جون برينان رئيس وكالة المخابرات المركزية الامريكية “سي اي ايه” الذي فجر قنبلة من العيار الثقيل عندما قال قبل يومين فقط امام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك انه لا امريكا ولا روسيا ولا دول المنطقة، ولا التحالف الدولي ضد “الدولة الاسلامية” يريد انهيار الحكومة او المؤسسات السياسية في دمشق، كلام خطير وغير مسبوق سينزل بردا وسلاما على قلب الرئيس السوري وجنرلاته، وسما زعافا في حلق معارضيه السوريين والاقليميين معا.
هناك عدة اسباب جوهرية ادت الى هذا التراجع الامريكي (ربما المؤقت) وفي مثل هذا التوقيت:
اولا: فشل الضربات الجوية الامريكية في القضاء على “الدولة الاسلامية” والجماعات الاسلامية المتشددة الاخرى ووقف تمددها، وانهيار فصائل المعارضة السورية “المعتدلة” الممولة من قبل واشنطن في المقابل، وما استسلام حركة “حزم” التي اسستها المخابرات المركزية وسلحتها، امام هجوم جبهة النصرة، في منطقة حلب، وحل نفسها وكوادرها الا اعترافا بالهزيمة، (انضم بعضهم اما الى النصرة او الجبهة الشامية او القاء السلاح والذهاب الى مخيمات اللجوء في تركيا) احد الامثلة في هذا المضمار.
ثانيا: صمود الجيش السوري طوال السنوات الاربع الماضية، واتساع دائرة الحاضنة الشعبية للنظام داخل سورية وخارجها بسبب اليأس من حسم الامر لصالح المعارضة وشعور سوريين كثر بأنهم تعرضوا لخديعة كبرى من قبل امريكا وحلفائها، وانعكاس ذلك في عودة عشرات الآلاف منهم الى بلادهم او انفضاضهم عن المعارضة، او التزام الحياد يأسا من الاثنين.
ثالثا: الدعم المفتوح والامتناهي لكل من روسيا وايران و”حزب الله” للنظام السوري ماليا وعسكريا وبشريا، وارسال كل من ايران وحزب الله قوات و”مستشارين” للقتال في صفوف النظام ضد المعارضة في وسط سورية وغربها وجنوبها، مما ادى الى منع سقوط النظام، ووقف تقدم معارضيه باتجاه العاصمة وطرق الامداد الرئيسية الى الشمال وساحله خاصة.
رابعا: توصل واشنطن ودول غربية وعربية اخرى الى قناعة بأن البديل للنظام السوري في حال سقوطه هو الفوضى الدموية، والفراغ السياسي الذي ستملأه حتما الجماعات الاسلامية المتشددة، وجاءت هذه القناعة من خلال مراقبة الاوضاع المتدهورة في ليبيا بعد اطاحة النظام الليبي، وتدمير مؤسساته الامنية والعسكرية والسياسية، والاخطار التي ترتبت على ذلك لعدم وجود البديل القوي الذي يمكن ان يملأ الفراغ، فليبيا شهدت انتخابات حرة ونزيهة مرتين، ولكنها لم تؤد الى قيام حكم رشيد وقوي يسيطر على البلاد ويحقق الاستقرار فيها، والشيء نفسه يقال عن كل من اليمن والعراق، ولعل الاستثناء الوحيد كان تونس، ويعود ذلك الى اسباب ليس هنا مجال شرحها.
خامسا: اقتراب واشنطن من توقيع اتفاق نووي مع ايران يؤدي الى رفع العقوبات الاقتصادية عنها، والتعاون معها في مواجهة “الدولة الاسلامية”، وربما الاعتراف بها كقوة اقليمية كبرى حليفة في المنطقة، والتحالف مع ايران ورفع الحصار عنها لا يبدو منطقيا في ظل العداء لسورية حليف ايران الاوثق ومواصلة دعم المعارضة لاطاحة نظامها، فاذا امطرت امريكا على ايران فبّشر دمشق وحزب الله بالمطر الغزير.
الوزير كيري لم يحدد موعدا لبدء الحوار مع السلطات السورية، لكننا لا نستبعد ان يكون هذا الحوار بدأ فعلا منذ مدة عبر قنوات سرية واستخبارية مباشرة او عبر وسطاء، وما يؤكد هذه الحقيقية التعاون والتنسيق غير المعلنين بين الجانبين في الحرب الجوية ضد “الدولة الاسلامية”.
المعارضة السورية “المعتدلة” او بالاحرى ما تبقى منها، ونحن نتحدث هنا عن السياسية المقيمة في الخارج منها، التقطت هذه التحولات في الموقف الامريكي مبكرا وبانزعاج شديد، ويتضح هذا في تصريحين لافتين:
الاول: تأكيد السيد بسام الملك عضو الائتلاف السوري ان مؤتمر المعارضة “المعتدلة” سيعقد في القاهرة، اواخر الشهر المقبل (24 نيسان/ابريل) وسيناقش بقاء الاسد رئيسا لمدة عامين مع نقل صلاحياته الى هيئة حكم انتقالي يتم بعدها اجراء انتخابات عامة (بمشاركة الاسد طبعا) واعلان دستوري جديد او العودة الى دستور عام 1950.
الثاني: وصف السيد خالد خوجة رئيس “الائتلاف السوري” منظمة “اصدقاء الشعب السوري” بأنها تمثل “حلفا من ورق” معتبرا ان تدريب مقاتلي المعارضة السورية المعتدلة “اضحوكة”.
بعد اربعة اعوام من “الثورة” السورية يمكن القول ان الرئيس الاسد بات اقوى من اي وقت مضى، وقد يكون خرج وسورية من عنق الزجاجة، وفرض شرعيته كرئيس لسورية على اعدائه وخصومه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وتركيا ودول خليجية (السعودية وقطر) وهو الحلف الذي ظل يشكك في هذه الشرعية، ويؤكد ان ايام النظام السوري معدودة، وجمد عضوية سورية في الجامعة العربية في خطوة انفعالية متسرعة.
هذا الانجاز الكبير للرئيس السوري يعود الفضل فيه بطريقة او باخرى الى “الدولة الاسلامية” التي ادى صعودها وتمددها السريع، والثابت، الى تغيير موازين القوى ومعادلاتها في المنطقة بأسرها بالاضافة الى الاسباب الاخرى التي ذكرناها سابقا.
لا نعتقد ان الرئيس السوري سيتقدم بالشكر الى السيد ابو بكر البغدادي زعيم هذه “الدولة الاسلامية” على هذا الانجاز الذي لم يقصده حتما، والرئيس الاسد لم يسع اليه ايضا، ولم يقدم يد المساعدة لقيام هذه الدولة، ولكنه تصرف بطريقة محسوبة عندما عمل على ترسيخ خلافات المعارضة، بعد بذر بذور بعضها، وساعد على تقسيمها الى معتدلة ومتشددة، عن قصد او بدون قصد، واوقع اعدائه في هذه المصيدة، ولم يخض معارك حقيقية ضد “الدولة الاسلامية” في شرق سورية لاستعادة الرقة ودير الزور ربما من منطلق الحرص على عدم توسيع دائرة حربه، وغض النظر مكرها، عن تمددها وازالتها الحدود وسيطرتها على مساحة جغرافية كبيرة في حجم فرنسا، على جانبها واخضاع عشرة ملايين لحكمها من سوريين وعراقيين، ولن نجاف الحقيقة ان الظلم الامريكي في العراق والتآمر في سورية والعراق هو الذي هيأ الحاضنة لقيام هذه “الدولة” ونموها.
الازمة السورية دخلت مرحلة جديدة مكان للمعارضة فيها، معتدلة او غير معتدلة محدود وضيق، بينما قد يتضخم دور النظام وداعميه، ولكن هذا لا يعني انتهاء الازمة وظهور رابح ومهزوم، بل ربما اعادة تدويرها، وتغيير بعض اللاعبين.
الازمة السورية ستطول حتما، والمفاجآت فيها واردة، وخريطة التحالفات مفتوحة على كل الاحتمالات، فمن كان يصدق ان النظام سيستمر اربع سنوات، وان امريكا ستتحاور معه، وستوقع صفقة نووية مع ايران بعد ان كانت تستعد لحرب ضدها؟
التاريخ - 2015-03-16 7:27 PM المشاهدات 922
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا