وصلتني الصور المنشورة على مواقع التواصل الإجتماعي، لبعض الفنانين الشباب وهم يرسمون على جدران مدينة دمشق القديمة. لم تعجبني بتاتاً واتصلت بالشخص المسؤول، وهو صديق قديم، مُستفسراً عن الغاية، قائلاً أني كنت أفضل أن أرى تلك الرسومات على الورق لا على الجدران.
دافع عنها بشدّة وقال أنها "تجميلية" ومأخوذة من روح المدينة وتراثها. حاولت أن أشرح له بلطف أن هذه الرسومات لا تمت إلى دِمَشق بشيء. صحيح أن الرسم على الجدران يحصل في كل مُدن العالم، ولكن في المناطق الحديثة منها أو العشوائيات وليس داخل حارات تاريخية عمرها آلاف السنين. فقد زرت الكثير من المدن التاريخية (وجميعها أحدث من دِمَشق) ولم أجد رسومات مماثلة في حارات روما القديمة، ولا في أثينا أو لندن. هل يقبل الفرنسيون مثلاً المساس بالموناليزا من منطلق الحداثة والتطوير؟ دمشق القديمة هي موناليزا السوريين جميعاً، وليس فقط الدمشقيين.
قال لي الرجل أن هذه الرسومات "تجربة" وبإمكانهم مسحها بسرعة لأنها تمّت على الجدران الكلسية فقط وليس الحجرية. هنا اتساءل، ما الفرق بين الجدران الكلسية والحجرية، فكلاهما جزء من لوحة متكاملة. أضاف صديقي أنه لن يستجيب إلى أصوات الضجيج التي تعالت ضد مبادرته، وطلب مني أن أزور الموقع لتقيم الرسومات بنفسي قبل أن أكتب عنها. ولكني وبكل صراحة لا أرغب بذلك، لأن قلبي المُتعب لم يعد يحتمل المزيد.
ثم قال لي: "كل المعماريين والمُهندسين الذين اعترضوا منذ الصباح الباكر لم ينجحوا في إنقاذ مدينة دمشق من الفوضى، ولا في ترميم بيت دمشقي واحد." هذه وجه نظر طبعاً، ولكن هل نرمم الخطأ بخطأ أكبر؟ هل نتستر على عيوبنا وفشلنا بعيوب إضافية وفشل إضافي؟ كان من الأفضل تكنيس حارات المدينة القديمة بدلاً من الرسم على جدرانها، فهي ليست بحاجة لأي مكياج أو مستحضرات تجميل، لأنها تشعّ جمالاً ونضارة. كل ما تحتاجه هو العناية والإهتمام، فقط لا غير.
البعض قد يعتبر أن هذه الرسومات تجميلية وفنيّة ومُبدعة، وهذا من حقه طبعاً. ومن حق الطرف الآخر الإعتراض لأن دمشق القديمة مُلك لكل الناس ولا يجب تحويلها إلى حقل تجارب. ألم يكفي هذه المدينة العجوز كل ما حلّ بها من مصائب في السنوات القليلة الماضية؟ ولو أرادت التصابي، وأكاد أجزم أنها لا ترغب بذلك، فليتهم أختاروا لها "مكياج" يليق بعُمرها ومكانتها بين المُدن. فإن اي عملية تجميل لأعظم مدينة في التاريخ وأقدم عاصمة وحلم كلّ مثقف يجب أن تتم وفق معاير ومرجعيات واضحة. وهنا أضيف أن موافقة محافظة دمشق لا تكفي، لأن أهالي دمشق وقاطنيها يجب أن يكون لهم رأي بما يحدث في داخلها وعلى جدرانها. نحن لا نعترض على الفن الجميل والحديث، فهو ضروري ومُفيد، ولكن هل حارات باب شرقي هي المكان المناسب لذلك؟
في الماضي وضعوا أشكال غريبة وعجيبة على جدران أوتوستراد المزة ولم نعترض، ثم كرروا التجربة على حائط مدرسة الفرانسيسكان بحيّ الشعلان. قالوا أنها دخلت موسوعة "غينس،" وبقينا صامتين. هذا مع العلم أن تلك المدرسة الجميلة هي جزء لا يتجزء من ذاكرة مدينة دمشق الحديثة. واليوم وصلت "التجارب" إلى باب شرقي، وهي مُرشحة لأن تنموا وتتفرع إلى أحياء قديمة اخرى، من منطلق "الإبداع" و"الحداثة" و"التشجيع على المبادرة."
هل تذكرون "الكنويشة"؟ هي عبارة عن قطعة قماش تُعطى للصبايا عندما يبدأون بتعلّم الخياطة، ليتدربوا بها ويصنعون فوقها ما يرغبون من رسومات وتطريزات. طيب ما رأيكم لو أخذنا "الكنويشة" ووضعناها فوق قطعة بروكار نفيسة من سبعة الوان زاهية، صُنعت بمشاغل دمشق. هل يكون ذلك تجميل لها، أم تشويه؟
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا