سورية الحظث _ خاص
دخولي لذاك المكان لم يكن مصادفةً حتماً، فحين خرجتُ من هنالك تبدَّلتُ إلى فتاةٍ أخرى، فتاةٍ عاجزة عن الكلام.
حين تخطو خطواتكَ الأولى إليه؛ تراودكَ رائحةُ الأوراق القديمة، ويتغير اللَّون أمامك إلى الأسود والأبيض تلقائياً، فتشعرُ بأنك عدتَ إلى الزَّمن الجميل الَّذي ستكشفُ سرَّ جماله الآن.
أحسستُ بأن من أسماه بدار العجزة؛ كان لا يمتلك القدرة على رؤية كمية العظمة الموجودة، فهؤلاء قد أكل العمرُ من حياتهم الكثير جاعلاً منهم متعبين الجسد أقوياء الرَّوح نستمدُ منهم ما اختفى من أيَّامنا الآن.
أعمدةٌ عملاقة، وجبالُ كلَّ منزلٍ ثابتٍ في هذا الوقت؛ رمقتهُ في عيونهم الذَّابلة، بين سطورِ ضحكتهمِ الَّتي رأت ما لا نتوقعهُ يوماً.
بين تجاعيد وجوههم توجد قصَّةٌ وحكاية مختلفة، ستسمعها بين ترنيمات صوتهم الَّذي سيختفي بعد مدَّة.
عجوزٌ حمراء كانت جالسة بقربِ شباكٍ بين خيوط غروبِ الشَّمس المتلاحقة، تروي لها حكايتها بكلِّ سعادة مع صوتٍ أكلَ العمرُ منه الكثير، وعيوناً قد بكت ليالٍ طويلة حتى طاف بها الأمرُ إلى هذا المكان المَسقيِّ بدموعهم أجمعين.
خطواتي حملتني نحوها، أردت استكشاف أسطورةً من هذا الزَّمن، وهي بدت أمامي كلوحةٍ يراهنون على قيمتها الكثير والكثير.
نظرت نحوي بهذه الابتسامة الممزوجة بنكهة القدم والطِّيبة المطلقة والَّتي اختفت تماماً في وقتنا الحاضر.
دون أن أتكلم بدأت بالتَّحدث، فلقد علمت بأني أتيت لكي أسمع روايتها العظيمة المكتوبة على وجهها بتلك التَّجاعيد المخطوطة.
" لم أعلم شيئاً عن الحبِّ يوماً، كنت أظنهُ طيفاً يزورنا ويرحل إن أردنا، رسمتُ له من كلام محيطي صورةً على أنه غير موجود وقصص الحبِّ تلك ليست سوى أقاويل كذبٍ وبطلةُ تلك الحكاية سيئة التَّربية حتماً.
وتولَّد الخوف تجاهه والاستنكار عن قبولي له، فعائلتي المحافظة لن تسمح بزيارةِ ضيفٍ صعب المِراس مثلهُ لدينا.
أما حكايتي، فقد بدأت بين أغصان القدر الصَّغيرة المخبأة للمحبين بصدقٍ أصحاب القلوب النَّقيَّة.
وكنت مِن مالكي أحدهم وأُصدِّر حُكمي بالحصول على حبِّي عن طريقِ شجرةِ الرُّمان بجوار شباك غرفتي.
كنت أجلس طوال يومي كالآن تماماً، فقد اعتدت ذلك، والَّذي جعلني أستمرُ بهذا هو تساقطُ رسائل مُحبِّي عن أغصانها، وقد هوى بي عندما شاهدني بقرب النَّهر كحوريةٍ أُسرِّحُ شعري بين ألحانه وعلى ضفافِ حنانهِ.
بقي حبنا يُزرعُ وينمو مع هذه الشَّجرة، وأصبح ثمرةً منها وغذائها اليومي، فما إن تبدأُ العصافير بسمفونيتها؛ كان قلبي يوقظني لاستلام سعادتي اليوم عن أحد أفرعها وأتلقَّى جرعةَ الحبِّ الَّذي لطالما خفتُ منهُ، ولكني غدوت أكبرَ عاشقة وضُرِب المثلُ بصدقِ مشاعري المتيَّمة.
كبرت ونما فؤادي مع تلك الشَّجرة المحببَّة، وكانت عيناهُ نور طريقي حين تسرقُ الشَّمس بعضاً من لمعانهما وأراها عنوةً حين تطرقُ خطواتهُ باب قلبي، وكانت النُّجوم على كتفيه تحتلُ حيزاً من روحي، وفي سمائي ماعدت لمحتُ غيرها.
وبعد وقتٍ طويل، قرار عشقنا نُفِذَ، ومحاولات إظهاري عروساً جميلةً احتلت جميع وقتي، تمنيت أن أصنع فستاناً من الغيوم، فقت سمعتُ أن الغيوم لا تموت ولهذا أردتُ أن أرتدي الأبديَّة معهُ وبجوارهِ.
عندما يحين موعدُ عرسك ستفهمين قصدي، ستتنحى مشاعركِ كلِّها ويحتلُ حبكِ الحيِّز الأكبر، حبِّك الَّذي رسمتهِ منذ بدايته سيتجلَّى بأكمله هذا اليوم، لأنه سيُسجَّل على لائحة الدَّائمين في أرشيف الهوى.
كنت أودُّ إهداء جميع من حولي بعضاً من سعادتي الَّتي كانت تكفي لرسم البهجة في ملايين القلوب، والشُّوق كان عدوي دوماً فقد كان يؤذي روحي والبعد ينتقمُ مني، كأن تسلبي ابناً من أمهِ فور ولادته ولا يرى حنانها ولا يشتمَّ رائحة أمانها.
في ذاك اليوم تحديداً أدركتُ أن المشاعر تسلبُ بلحظةٍ واحدة، وأن موت القلب لا يستغرقُ إلَّا القليل.
خرجتُ بفستاني الأبيض لأستقبلَ عزيز قلبي بلباسهِ الأبيض أيضاً، وبقيت مستنكرةً ابتعادهُ عني وجلوسهِ في تلك الخشبة الكريهة، ففي آخر جملةٍ كتبها لي قال فيها بأنه سيمسكُ يداي بثباتِ بُعدِ تلك الأيَّام كلها.
ولكني رأيت يداي تموتان برداً وعيوني ناشدت القبر بأن يعيدهُ إلي، فالشهيدُ عريسُ السَّماء الَّتي أحسدها للآن باحتوائها لهُ بدلاً مني!
يا ابنتي، لقد ودعتهُ قبل أن ألقاه، ودفنتهُ قبلَ أن أخلق مشاعري من جديد بقربهِ، شيَّعتُ فؤادي معهُ بين قضبان مقبرة الهوى.
ولا تعلمي حجم نقمتي على لحظات الحرب اللَّعينة!
زمني توقف حينها، لذلك غدوت عجوزاً قبيحة وألمُ الفُراقِ خطَّ كلماتهِ على وجهي كما ترين الآن.
ومحطتي الوحيدة كانت قبرهِ، حتى رماني الزَّمان هنا حيثما ترين، فمن سيهتمُ بعجوزٍ مفجوعةٍ مثلي ولا تجيد سوى تأمل الشَّمس وأشجار الرُّمان؟!
ليتني كنتُ فتاةً سيئة القصة وعانقتهُ عناقاً سرمدياً عسى أن تنطفئ نيراني الَّتي تشاهدينها الآن في عيوني."
توقفت وأكملت تأملها العميق في رحيل الشَّمس ذاك، أظن بأن ذكرى أخرى قد راودتها وسرقتها مني وأرسلتها مع غياب آخر بقايا الشَّمس إليه.
تحشرجت الدُّموع بين سطورِ روحي، وعمَّ الصَّمت داخلي، فأيُّ حبِّ هذا وأيُّ فقدانٍ يستمرُ ألمهُ حتى الممات؟!
خرجتُ بخطواتٍ متثاقلة وعادت ألوان الشَّارع كما كانت قبل دخولي، وقبل مغادرتي رأيت شجرةَ رمانٍ وتحتها بذرةُ حبٍّ تنمو بين عيونهِ وعيونها، كان بودي إخبارهما بأن حكايتهما ستنتهي في محطةٍ قاسية، وأن الدُّموع لن تفي بالغرض حينها.
/ جَــوىٰ يُونِــس قَصِيــر /
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا