شبكة سورية الحدث


توثيق ذاكرة الثورة وصدفة الحافز على إيقاع الفالس في حدائق فيينا

توثيق ذاكرة الثورة وصدفة الحافز على إيقاع الفالس في حدائق فيينا


سورية الحدث الإخبارية - معين حمد العماطوري  


لم تكن رحلة كاتب قصد مدينة الحدائق والأزاهير الغناء في "فيينا" للدراسة العلمية الهندسية، حاملاً تحت إبطه حقيبة فيها من العيش رغيف ومن زاده المعرفي الكتب اللغوية الاجنبية إلا ليجسد ما استمع إليه من صوت ملكة الغناء الشرقي في أربعينيات القرن الماضي على وقع إيقاع الفالس وبين أجواء البلاد المفرحة وبصوت شرقي اسمهاني يردد "ليال الأنس في فيينا" ومن ألحان ذاك الخالد بموسيقاه "فريد الأطرش" إلا ويعبر عن مدى ارتباطه بين بيئته الثورية الوطنية الجبلية وبين ما يرنو إليه من العلم والتجريب والهندسة، ويتجه نحو التوثيق والتدوين بلحظة المصادفة مع من عاصر المعارك والوقائع وران بصمته الثوري سنين عديدة، حتى إذا اتسقت أنفاح عطر الحديقة النمساوية ويجلس صدفة بمن أثار في مشاعره مرارة الفراق والهجرة الأهل والصحب معززاً بفؤاده لواعج البحث، ولدت لديه نور الارتباط الوجداني والتاريخي بتوثيق ما حمله الأجداد والوطن، ويرى دون أن يجهد نفسه التفكير بحقيبته الملونة بألوان علم الوطن السوري وبأهازيج الشيخ صالح العلي ونخوة إبراهيم هنانو، ورجولة حسن الخراط وعقلنة د. عبد الرحمن الشهبندر وأمارة شكيب وعادل أرسلان ورشيد طليع وفؤاد سليم، وصهيل خيل رمضان شلاش وأحمد مريود ومحمد الاشمر وفوزي القوقجي، ليصمت الزمن عند زئير سلطان باشا الأطرش ويجمعوا له قيادة الثورة السورية الكبرى، ولكن الباحث الذي أراد أن يضيف أفضل مما دون في العامة من الصحف والكتب فعاد إلى قريته "الشبكي" بعد عقدين ونيف ويسجل بالصورة والصوت المصدر التوثيقي ذو المصداقية الواثقة من والده المجاهد متعب الجباعي أحداث ووقائع مطابقاً لما استطاع الجمع من الوثائق.
قد يسأل الكثير من هو ذاك الباحث المتميز والجامع بين العلم التطبيقي التكنولوجي وبين التاريخ التوثيقي فهو المهندس "سميح متعب الجباعي" الذي أعد مشروعاً بحثياً توثيقياً موسوم بكتاب أسماه "ذاكرة الثورة المجاهد متعب الجباعي ما بين عامي 1920 و1939، وهو يروي قصته والحافز ليصبح باحثاً تاريخياً رغم انه مهندساً ويخرج للنور مشروعه الذي يروي صدفته قائلاً: 
في شهر أيلول من عام 1974م، كان قد مضى على وجودي في مدينة فيينا عاصمة جمهوريّة النّمسا الاتّحاديّة خمسة أشهر، وكنتُ قد جئتُها لإتمام دراستي الجامعيّة.
 في منتصف عام 1974م، بينما كنت أتجوّل في إحدى حدائق النّمسا الجميلة متأبّطًا حقيبتي السّوداء، التي تحتوي على الرّسائل الأخيرة التي وصلتني من الأصدقاء والأهل، و كتاب تعلّم اللغة الألمانيّة، وقطعتين من الخبز، حِصّتي المحدّدة من قوتي اليوميّ، بحثتُ عن مقعدٍ في الحديقة، فوجدْتُ مكاناً مناسباً بحيث أتنعّم بدفء الشّمس، وأستمتع ببحيرة الماء والنّباتات والزّهور الجميلة المحيطة بها، وبعد دقائق، جلس على المقعد بجانبي بعد أنِ استأذنني  رجلٌ سبعينيٌّ، وراح يراقبني فشاهدني وأنا أتصفّحُ بصعوبةٍ كتاب تعلّم اللغة الألمانيّة. كنت أنظر إليه بين وقت وآخر راجياً أن يتحدّث إليَّ؛ لأختبر مقدرتي في اللغة الألمانيّة، وبعد فترة من الزّمن وبينما كنّا نتبادل النّظرات بادرني بالحديث يسألني إن كنتُ أعرف اسم هذه الحديقة، فقلت له: لا أعرف.  فقال: "هذه الحديقة سُمّيتْ باسم مَن كان اغتياله سبباً مباشراً لنشوب الحرب العالميّة الأولى، وأنا أحد أفراد هذه الأسرة التي نفتها الحكومة النّمساوية عام 1918 إلى سويسرا، واسمي هو "فرنس من هابس بورك، عرف الرّجل السّبعيني أنّني من سوريّة، من بني معروف، جبل "الدّروز"، وبدأ يحدّثني عن الثّورة السّورية الكبرى عام 1925، وعن قائدها سلطان الأطرش، ورجالها بأسمائهم...فسألته: "ومن أين لك بهذه المعلومات؟" قال: "كان لي جلسات أدبيّة وتاريخيّة مع الأمير شكيب أرسلان في سويسرا " 
هذه الحادثة دفعتني للبحث في هذا المجال، كَوْن والدي "متعب إبراهيم الجباعيّ" كان أحد رجالات هذه الثّورة، ورافق قائدها سلطان باشا الأطرش. عندها بدأتُ بتدوين الأسماء والمواقع على ورقة، مستندًا على كتاب تعلّم اللغة الألمانيّة، وحصلت على بعض المعلومات من المراجع المتوفّرة في النّمسا والبلدان المتكلّمة باللغة الألمانيّة، وقد احتفظتُ بهذه القُصاصة إلى أن عُدتُ لزيارةِ وطني سوريّة وبلدتي الشبكي عام 1996، بعد انقطاعٍ عنها لمدّة تقارب اثنين وعشرين عاماً، وكانت معي (آلة فيديو) للتّصوير، سجّلت عليها العديد من الأحاديث المتعلّقة بالثّورة السّورية الكبرى عام 1925م، عن لسان والدي – رحمه الله - وكانت الحصيلة أكثر من سبع ساعات تسجيل بالصّوت والصّورة، أطلقت عليها اسم "المذكرات المسموعة"(مم1996)، كلّها عن الثّورة السّورية الكبرى؛ بأحداثها وشخصيّاتها الوطنيّة، وما يخصُّ جبل الدّروز، من عام 1850م حتّى عام 1937م، وعودة قائد الثّورة سلطان الأطرش ورفاقه من وادي السّرحان.  وأكّد لنا السّيد الوالد في مذكّراته المكتوبة والمسموعة دور كلّ الشّخصيّات والمواقع التي سألتُه عنها مستعيناً بقصاصة الورق، التي ما زِلتُ أحتفظ بـها حتّى الآن. "إلى من يطّلع على هذا العمل، ويحفظ في ذاكرته للأجيال القادمة تاريخَ الثّورة السّورية الكبرى"
أحببت أن تكون هذه المقدّمة مدخلاً للحديث عن مجاهدي الثّورة السّورية الكبرى، بقيادة سلطان الأطرش، وتلك القصّة التي حدثت معي لا تزال مشاهدها وأحداثها مرافقة لي منذ أكثر من أربعة وأربعين عاماً.
     لقد كنت سعيداً ومحظوظاً في منشئي؛ فقد كان لنا مَن يحدّثنا عن رجالات الجبل العظماء، وفي كل مناسبة منذ طفولتنا كان يكرّر علينا مآثرهم الخالدة، حتّى أصبحنا نشعر بسلطان الأطرش ورشيد طليع وفؤاد سليم وعادل أرسلان وغيرهم الكثير من الشّهداء والمجاهدين وكأنّ تاريخهم محفورٌ في ذاكرتنا، ومرافقٌ لنا في سباتنا ومعاشنا وكلّ لحظة من حياتنا. وما أجملها من سعادة عندما أكون في العالم الواسع، يقابلني اسم علاّمة مثل الأمير شكيب أرسلان! يعلِّمنا مَنْ جالسه من الإفرنج تاريخَنا، ويفصح لنا عن أسماء عمالقة الجهاد والشّهادة، مثل: فؤاد سليم ورشيد طليع وفضل الله هنيدي وحمد عامر ومعذَّى المغوِّش وعادل النّكدي وحمد البربور وأحمد مريود والأمير عزّ الدّين الجزائري، إلى جانب العديد من شهداء الجبل والغوطة ودمشق، وكلّ هؤلاء كتب أمير البيان في تأبينهم، وهذه الوثائق سيصل إليها القارئ من خلال تصفّحه فصول هذا الكتاب العديدة. كلّ هذا كان بسبب حديث عابر في البداية مع رجل لـم يكن لـي به معرفة سابقة!
وبعد ذلك، دامت هذه اللقاءات خمس سنوات، كنّا نلتقي مرّة في الشّهر أو مرّتين، في أحد مقاهي فيينا المشهورة (مقهى لاند مان)، الذي كانت تُوزّع فيه الصّحف العربيّة وثيقة رقم (100429) آنذاك، في زمن الثّورة، ومنها التي كان يكتب فيها أمير البيان شكيب أرسلان بشكل خاصٍّ. 
وفي عام 1979كان لقائي الأخير بالسّيد "فرنس" عند وداعي له في المشفى، فكان هذا الشّخص السّبعيني هو بالنسبة لي بمثابة قطعَتَيّ الخبز اللتَيْنِ في حقيبتي لتأمين قوتي الجسدي، وكان لي بمعرفته ولقائه تأمينُ قوتي الرّوحيّ والفكريّ الذي كنت بحاجة إليه أكثر من قطعتيّ الخبز.
عندما نكون خارج بلدنا وأوطاننا نلتقي بأُناس مثل فرنس من هابس بورك، وعندما نكون في بلدنا نلتقي برجال أمثال المجاهد متعب الجباعي (ذاكرة الثّورة)، يحدّثنا عن رجالات وأعمدة الثّورة السّوريّة الكبرى، لنحفظَ ذكرى أعمال هؤلاء في ذاكرتنا؛ من أجل أن نعود إليهم في أوقات الإحباط، فنمنح أنفسنا قوةً رّوحيّةً وفكريّةً.
كتب أمير البيان شكيب أرسلان في مقدّمةٍ من روائع مقالاته أنّ التّاريخ لا يكون بالافتراض والتّحكم، ونحن لا نصنع التاريخ، بل نحاول نقل الأحداث والوقائع التّاريخية بمصداقيّة وشفافيّة عالية، ودون افتراض أو محاولة منّا للتّحكم في الأحداث التّاريخيّة، معتمدين بذلك على ما سمعناه من رجال موثوقين، وأبطال ومجاهدين وثوّار أحرار، ومن وسائل إعلام خالية من التّزوير والتّحريف والفبركة، ممَّن عاشوا مع تلك الأحداث التاريخيّة ونقلوها لنا، وما علينا إلا أن نثبّتها على الورق لنطَّلِعَ عليها وتقرأها الأجيال القادمة بعدنا.
عندما يتكلّم القائد العامّ للثّورة السّورية عنها وعن وتاريخها وأحداثها ورجالها، وينقل لنا المجاهدُ متعب الجباعي (ذاكرة الثورة) أحاديثَه بصدقٍ عن أحداث الثّورة ورجالاتها ومآثرهم المجيدة نقف إجلالاً واحتراماً وإكباراً للرّجال الأبطال الذين صنعوا النّصر، ونشعر بالفخر والاعتزاز بهذه القامات الوطنيّة العملاقة، ونخشع أمام جبروت تضحياتها. ولا يمكننا تحريف التّاريخ والتّحكم بأحداثه حسب أهواء مَن يريد، ممّن يظنّون أنفسهم مالِكي الحقيقة التّاريخيّة المطلقة...فالحقيقة التّاريخيّة الدّامغة والمؤكّدة دون تحريف، هي تلك القامات الشّامخة المحفورة في ذاكرتنا، وأضرحة الشّهداء التي ستبقى مناراتٍ خالدةً تنير طريق الأحرار مدى العصور، والمجاهدون الأبطال بمواقفهم ومآثرهم، وصدَق أمير الشّعراء أحمد شوقي في وصف القائد العام سلطان الأطرش ورفاقه حين قال:
وإنْ سألَتْـــهُــمُ الأوطــانُ أعطَوا   دمـاً حُــــــــرّاً وأبـــنــــــــــاءً ومــــــــالا
فهو يعرف مدى وفاء رفاق دربه من مجاهدين وثوّارٍ أحرارٍ، ومدى ارتباطهم بقائدهم الوفيّ النّقيّ، وصدق المجاهد متعب الجباعي حين: "إنّ القائد الفاتح العظيم تأتي عظمتُه من عظَمة رجالِه ومَنْ حولَه منهم"، ويعرف القائد سلطان رجاله ورفاقه جيدًا، وقد ذكرهم في مذكّراته، وهم قامات - بل عمالقة - لن يتجاهلهم التّاريخ، وقد وردت أسماؤهم آنذاك تُزيّن الصّحف بأعمالهم ومآثرهم وتضحياتهم. 
أخيراً نستطيع القول ان الباحث المهندس سميح متعب الجباعي استطاع أن يجسد ما أراد في التوثيق من خلال ذاكرة الثورة التي لابد وأن يتبع لفصوله وأبواب منجزه مقالات عديدة...

التاريخ - 2021-05-20 4:54 PM المشاهدات 2014

يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرامانقر هنا