سورية الحدث الإخبارية-السويداء- معين حمد العماطوري
يعتبر التوثيق عملاً وجدانياً وأخلاقياً حينما يعمل المرء على تدوين فعل الأبطال المجاهدين وسيرتهم العطرة ورسمهم لوطنهم معالم جديدة باتت تشكل في الذاكرة حدائق غناء ينفح أريج عطرها عبر الزمن، وربما القيمة المضافة وجمال القيمة في التوثيق بواقعية المكان رغم قسوة المشهد والحدث التاريخي، إذ من منا حينما يمر في ساحة المرجة بدمشق الفيحاء ولا يستذكر ما فعله السفاح بأبناء الوطن، ولهذا كم نفخر حينما يأتي صوتاً من بلاد الاغتراب ليحي في داخلنا فعل الأماجد الأوائل وهو بين أروقة التاريخ وحدائق فيينا الجميلة، لعله شعور انتمائي يستحق عليه ما يجب أن يقدم لمن حب وطنه وانتماءه وأهله، وهذا ما قدمه المهندس سميح متعب الجباعي بكتابه /ذاكرة الثورة المجاهد متعب الجباعي 1920-1939/ فقد أوضح فيه أن العثمانيين وفي أعقاب معاركهم وحملاتهم البائسة ضدّ جبل العرب وهزيمتهم القاسية، وبالتّحديد سنة 1911 تعمّدت ساحة المرجة بدمشق بدماء أوّل كوكبة من شهداء الأمّة العربيّة من قادة الثّورة العربيّة ومنهم زعماء من الجبل الذين شنقهم السّفاح العثمانيّ سامي الفاروقي، وكان ذلك قبل شهداء السّادس من أيار بخمس سنوات تغافل الحاقدون عن ذكر هذه المجزرة. ومن مجاهدي وقادة الجبل الأحرار الذين أعدمهم الوالي "العربي" الفاروقي هم: محمد القلعاني، يحيى عامر، مزيد عامر، هزّاع عزّ الدّين، حمد المغوش، ذوقان الأطرش والد سلطان الأطرش القائد العامّ للثّورة السّوريّة الكبرى، وكان الشّيخ أحمد الهجري شيخ العقل الأوّل في الجبل، هو أيضاً من جملة الذين حُكم عليهم بالإعدام في المحكمة نفسها، ثم أُعفي عنه وعن عدد آخر من الشّيوخ والأعيان، ودُعيَ إلى سماع وصايا المحكومين عند تنفيذ الأحكام بهم فروى الشّيخ أحمد الهجري رحمه الله ما شاهده قائلاً: "كان بعض مشايخ دمشق يحضر معنا في أوقات تنفيذ حكم الإعدام شنقاً بالمحكومين فأذهلهم ما كانوا يشاهدون عن فرسان الجبل وكيف يسيرون بلا خوف ولا وجل إلى منصّة الإعدام فيقولون بعد البسملة: "على المولى توكّلت وبه استعنت وبرسوله الأمين اعتصمت وتوسّلت اللهم إنـّي قادم إليك فاقبضني يا كريم وارحمني يا عظيم والصّلاة والسّلام على أشرف الخلق وخاتم النبيّين" فصرخ أحد شيوخ الشّام مستنكراً هذه الأحكام وخاصّة عندما سمع ذلك من الشّيخ هزّاع عزّ الدّين الذي كان أفصحهم لساناً وأجهرهم صوتاً فصاح قائلاً: "مظلومون وحقّ الكعبة مظلومون!! إنـّهم عرب شرفاء ومسلمون مؤمنون".
لعل ما قدمه المرحوم الشيخ الهجري عن الراحل المجاهد "هزاع عز الدين" وبنفس الخطاب هو إعادة لربط بين السفاح سامي الفاروقي وحامد بن العباس عندما صلب شهيد الصوفية والعشق الإلهي /الحلاج/ والذي ردد ما أجاد به الشيخ هزاع عز الدين أثناء تنفيذ حكم الإعدام به، ولكنه أردف بالقول: /اللهم لو كشف لهم ما كشفت لي لصعقوا اللهم سامحني وسامحهم/...وحينما استمع الملقن ما سمعه صدح بصوته الأجش: "وحق الكعبة أنهم لمظلومون أنهم مسلمون مسلمون حقا" وهو واحد من أعمدة دمشق الفيحاء الذين توارثوا الإفتاء الدمشقي "من آل كفتاور"، ما دفع أحد الشعراء أن يصور تلك الحالة البديعة التاريخية الإبداعية في بيت من الشعر يعتبر ملحمة الكفاح العربي ضد الاستعمار العثماني برأي على الأقل والذي قال فيه:
أكرم بحبل غدا للعرب رابطة وعقدة وحدة للعرب معتقدا
ويتابع المؤرخ المهندس سميح متعب الجباعي لقد كانوا رحمهم الله أباة ضيم وحماة ديار وثواراً مجاهدين في سبيل حريّة بلادهم واستقلال أمّتهم، كثيرون هم الذين كتبوا تاريخ بلادهم بالشّهادة ورسموا خريطة وطنهم بأرواحهم ولوّنوها بدمائهم وظلّوا على حقيقتهم وعهدهم وكلمتهم مناضلين شرفاء لأنّهم آمنوا بأنّ مصلحة الوطن فوق أيّ مصلحة، لم تمض خمس سنوات على تنفيذ حكم الإعدام بشهداء الجبل الآنفي الذكر، من قبل الوالي العثمانيّ اللاعربيّ سامي الفاروقي، حتى قام جمال باشا السّفّاح بإعدام نخبة من المثقفين العرب من مختلف مدن سوريّة ولبنان فقد ساق السّفاح لهم مختلف التّهم التي تتراوح بين التّخابر مع الاستخبارات البريطانيّة والفرنسيّة، للتّخلص من الحكم العثماني، إلى العمل على الانفصال عن الدّولة العثمانيّة، وهو ما يقال أنّه ما كان يسعى هو بنفسه إليه.
فقام السّفّاح بإحالة ملفّات المناضلين لمحكمة عرفيّة في عاليه في جبل لبنان، حيث أديرت المحاكمة بقسوة وظلم شديدين، وبدون أن تحقّق أدنى معايير المحاكمات العادلة والقانونيّة، صامّاً أذنيه عن جميع المناشدات والتّدخّلات التي سعت لإطلاق سراحهم.
وتمّ تنفيذ أحكام الإعدام شنقاً على دفعتين، واحدة في الحادي والعشرين من شهر آيّار عام 1915 والدّفعة الثّانية في السّادس من أيّار 1916 في كلٍّ من ساحة البُرج في بيروت، فسُمّيت ساحة الشُّهداء، وفي ساحة المرجة بدمشق. وقد بلغ عدد الشّهداء واحداً وعشرين شهيداً كما وحكمت المحكمة العرفيّة بالسّجن لمددٍ مختلفة على زعماء آخرين أمثال الشّيخ فرحان العبد لله، سلامة مراد، حمد ومحمد البربور، محمد الجرمقاني، يحيى الاطرش وغيرهم من ثوّار الجبل.
بقي أحمد جمال باشا السّفاح ممعنا في غيّه، إلى أن شعرت الدّولة العثمانيّة بنتائج سياسته الفظيعة، فنقلته من سوريا وعيّنت بدلاً منه جمال باشا المرسيني الشّهير بالصّغير، وفي مدينة تبليسي التّركيّة عام 1921 يسقط السّفّاح قتيلا على يدِ رجلٍ أرمنيٍّ يدعى اسطفان زاغكيان.
وبالتالي تكون نهاية كل سفاح يحاول طمس فعل الأماجد لحماية وطنهم وأرضهم وعرضهم من الاستعمار العثماني وأمثاله في التاريخ....وتبقى ذاكرة الثورة مستمرة في أحداثها لتقديم أهم الوثائق الهامة في وقائعها الجمالية المعبرة عن بطولة الأهل والأجداد.
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا