أشهرٌ غير معدودة مرَّت على أوّل حالة عُرِفَتْ من داء خطير سريع الانتشار في البلاد
لا أدري كيف أصف لكِ بالتّحديد عزيزتي كلوديا ، لكنّ الوضع مخيف..
مخيف لأبعد حدّ ممكن
سمعتُ من البعض أنّه يدعى الطّاعون و يُرمَز لهُ بالموت الأسود ، لم أكُن واثقاً ممّا تناقلتْهُ الأخبار عن فظاعة هذا المرض ، فوالدتي أقفلَتْ كلّ أبواب و نوافذ المنزل منذ أن اختفى والدي بظروف غامضة ..
الوضع لا يطاق ، أخواتي دائمو السؤال عن أبي ، و أمّي دائمة الشّكوى و الخوف ، و أختي الصّغرى إليزا لا تكفُّ عن المطالبة بالخروج للّعب خارجاً في الحديقة ..
أمّا عنّي .. فمازلتُ محافظاً على هدوئي بعض الشّيء ، أقضي معظم وقتي بجانب أمّي و ألاعب أخواتي حتى المساء ، أنتظر أن ينام الجميع و أبدأ بالبكاء وحدي ..
دموعي تنهار اشتياقاً لأبي ، و خوفاً عليه ، و خوفاً على ما تبقّى من عائلتي من المرض ..
إنّنا نتضوّعُ جوعاً يا كلوديا ، لم يبقَ سوى القليل من الخبز اليابس الذي لا يكاد يطعم إليزا وحدها ، و أمّي تعاني من الصّداع الدّائم و الكوابيس عن الوضع الرّاهن ..
لا تغضبي ممّا سأقول .. لكنّني خرقتُ القوانين البارحة في تمام السّاعة الواحدة صباحاً ، و خرجتُ من المنزل و الجميع نيام ..
ما رأيتهُ كان مرعباً ..
لا أعرف من أين أبدأ ، الجثث مرميّة في الطّرقات و كأنّها قمامة بالية ، و كأنّها لم تنتمِ لكيانٍ بشريّ قط
الدّماء تسيل في كلّ مكان ، الهدوء مسيطر على الجوّ العامّ و رائحة الدّم الفاسد تطغى على كلّ شيء
للحظة أردتُ أن أعود إلى المنزل و أختبئ تحت السّرير و كأنَّ شيئاً لم يكن ، لكنّي كنتُ مصرّاً على جلب بعض الطّعام لأمّي خاصةً ، كما أضاء بداخلي أملٌ صغير .. عَلّي أجد والدي حيّاً يُرزَق ..
تابعتُ للأمام ببطء و حذر شديد ، كانت دقّات قلبي تتسارع و الخوف يعتري كلّ ذرّة من جسدي الضّعيف ، جثثُ الرضَّع و الأطفال دون السّادسة مزّقتْ قلبي و اعتصرتْه وجعاً ، لقد كادَ يُغمى عليّ لو لم أتدارك نفسي في اللحظة الأخيرة
فكما تعلمين ، السّقوط على الأرض و ملامسة الجثث و دمائها الجافّة قد تنقل لي العدوى بسرعة
و إن كنتُ لأحافظ على نفسي و أحميها .. فأنا أفعل ذلك من أجل عائلتي فقط ، أتشبّث بالحياة لأجلهم ، و أحارب باستمرار في سبيلهم ..
مرَّتْ نصف ساعه من الهدوء القاتل و المناظر المرعبة و مازلتُ لم أرَ أثراً لوالدي
إلّا أنّني سمعتُ أخيراً أصوات أحصنة قادمة من بعيد ، لقد وصل الكادر الطّبيّ على ما يبدو .. ولكنّهم تأخّروا
تأخّروا كثيراً يا كلوديا ..
كانت أزياؤهم تدهشني ، حيثُ ارتدى كلّ منهم بدلة واقية من معطف صنع من نسيج خفيف مشمّع وقناع به عيون زجاجية وأنف على شكل منقار يحشى بالأعشاب والقش والتوابل مع قصبة لفحص وتحريك المرضى أو في هذه الحالة " الجثث "
لقد استيقظَتْ أمّي تبكي .. عليَّ الذهاب لأحتضنها ..
إلى اللّقاء .. بعد الوباء ..
صديقكِ المخلص .. مارسيل .
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا