سورية الحدث
ديسمبر مقبرةُ الذّكريات
تمايلت مجموعاتُ الأجراسِ الثّلاثِ المُعلّقةِ في وجهِ بابِ المقهى صادحةً برنّاتٍ شتويّةِ الألحانِ، مشيرةً لفتحِ بابِهِ، لتتحوّلَ أنظارُ الجميعِ إليهِ، وتعتريَ وجوهَهُم علائمُ دهشةٍ غريبةِ القَسَماتِ وكأنَّ وزيراً اقتحمَ المكان!!
كيف لا وقد كانتِ المرّةَ الأولى الّتي يرتادُ فيها المقهى وحدَهُ دونَ تلكَ الفاتنةِ الّتي ترافقهُ عادةً.
علّقَ معطفهُ المكتنزَ بماءِ المطرِ ومظلّتهُ الجافّةَ على مشجبٍ خشبيٍّ صغيرٍ، وتوجّهَ لطاولةٍ انفراديّةٍ تطلُّ على قارعةِ الطّريقِ، جلسَ وأخرجَ مفكّرةً زرقاءَ صغيرةً وقلماً وعلبةَ سجائرَ وولّاعةً، وضعها أمامهُ وأشارَ للنّاذلِ بإيماءَتهِ المعتادةِ فأحضرَ لهُ حالاً فنجانيّ قهوةٍ، وثلاثةَ مكعّباتِ سُكّرٍ. تناولَ مكعّباتِ السُّكّر دفعةً واحدةً، أشعلَ سيجارةً وفتحَ مفكّرتهُ وهَمَّ بالكتابةِ وسطَ ذهولٍ عجيبٍ عن طلبِه فنجانين من القهوةِ وحدَهُ، وثلاثةَ مكعّباتِ سُكّرٍ كان قد اعتادَ تناوُلَها قبلَ احتساءِ قهوتهِ مبرّراً ذلكَ أنَّ السُّكّرَ يُذهِبُ حلاوةَ مرارةِ البُنِّ فلا يضعُها في الفنجانِ، لكنَّ تأمُّلَ الجمالِ الفتّانِ ثلاثَ ساعاتٍ متواصلةٍ يتطلّبُ الطّاقة، إذ لا مَفَرَّ من السُّكّرِ!!
مكثَ ساعةً كاملةً قضاها يكتبُ تارةً، شارداً بالمارّةِ تحتَ وابلِ المطرِ من خلفِ الزّجاجِ تارةً، ملتهماً سجائرهُ الواحدةَ تلوَ الأُخرى، مرتشفاً قهوتهُ بمنتهى الطّمأنينةِ والسّلامِ.
انتزعَ ورقةً من مفكِّرتهِ، وضعها على الطّاولةِ، وضعَ حِسابَ ما طلبهُ فوقها، ثمَّ تناولَ معطفهُ وارتداهُ، أمسكَ مظلّتَهُ، تأمّلها هُنَيْهَةً ليُثبتَ أنّهُ لم ينسَها، أعادها للمشجبِ، ودفعَ بابَ المقهى مُصدراً حشرجةً غريبةً بالأجراسِ، وغادرَ تحتَ أمطارٍ ديسمبريّةٍ متعطّشةٍ للقاءِ الأرضِ.
وفي ظلِّ وشوشاتِ الحضورِ حولَ هذا المشهدِ، توجّهَ مالكُ المقهى إلى الطّاولةِ الّتي غادرها الشّابُّ توّاً، تناوَلَ الوَرَقةَ، وطلبَ الهدوءَ من الحاضرينَ ليقرأَ عليهم ما كُتبَ فيها:
" لقد جَرَتِ العادةُ أن تكونَ المقاهي مقبرةً للنّهاياتِ، كما وجَرَتِ العادةُ أن يكونَ ديسمبر شهرَ الوداع، ما رأيتموهُ كانَ مشهداً مكرّراً لستُ بادِءَهُ ولستُ بمُنهيهِ، مشهداً واضحاً يروي نهايةَ إحدى العلاقاتِ الّتي بدأت كغيرها بوعودٍ جازمةٍ بسرمديّةٍ مُطلقةٍ رغمَاً عن أنفِ القَدَرِ، لتخضعَ لتهديدِ زنادِ الكرامةِ فوقَ كلِّ شيء.
أمّا عن سببِ عدمِ اصطحابي لمظلّتي، ولِمَ أرهنُ نشوةَ المشيِ تحتَ المطرِ بوجودِ امرأةٍ، فإن غابت تَوَجَّبَ استخدامُ مظلّة؟! لن أحملَ مظلّاتٍ بعدَ اليوم.
ولعلّكم تتساءلونَ عن طلبي فُنجانيّ قهوةٍ رغمَ أنّها ليست بصُحبتي، ستجدونَ الجوابَ في الحسابِ على هذهِ الورقةِ، فقد دفعتُ ثمنَ فنجانٍ واحدٍ وثلاثةِ مكعّباتِ سُكّر!! من الآن فصاعداً، سأطلبُ لها القهوةَ المُرّةَ أينما ذهبتُ وأُغرِقُ قلبها بديونِ مرارةِ الفراقِ يوماً بعدَ يومٍ.
وختاماً...
لِمَ مكعّباتُ السُّكَّرِ، وليست أمامي لأواجهَ سحرَها الأخّاذَ بالمزيدِ من الطّاقة؟
تيقّنوا أَحِبَّتي أنَّ ما تستهلِكُهُ لتُحِبَّ في ساعاتٍ ثلاثٍ، ستحتاجُهُ لتواجهَ علقمَ الفراقِ في ساعةٍ واحدة!! ".
د.أحمد علي
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا