سورية الحدث الإخبارية
عيدُ مولدكِ يا سيّدةَ النِّساء ___________________________
و لأنَّ الكلمات المتكررة و التّهاني الاعتياديّة..
لا تليقُ بنقاءِ مُحيَّاكِ و عظمةِ حضرتكِ..
سأتجرَّدُ بسُرعةٍ مِن جميع أقنعتي و أخلعُ ثوبَ الهويّة
سأتقمّصُ القلمَ كوناً و أرتدي رِسالةً ورقيَّة..
سأتلحَّفُ الضَّادَ، و أتوأضّأُ بمسكِ العربيّة..
كي لا أطيلَ عليكِ، أو بالأحرى.. كي لا أطيل عليَّ!
فحروفي باتت تَبتلعني و تقتاتُ على أطراف جسدي و حبري قاتِلُ المنيّة
و لم أعُد أقوى على طَمسِها و كتمانها، سأخرجها هُنيهةً كالسريّة!
تصطفُّ للقياكِ، فَلتُبارِكيها بِمسكِ أنفاسكِ السّخيَّة..
يا هِمَّتي عندَ وَحشَتي، و بَلسَمي عندَ كُربَتي، يا أميرةَ البريَّة!
———————————————————-
في ميلادكِ يا سيّدةَ النِّساء
أستدعي كلَّ من ماتَ من الكُتَّابِ وَ الشّعراء إلى منبر جِفنَيكِ، لأُعيدَ إحياءَهُم بروحِ قلمي العاشِق بين سُطورِ مُقلتيكِ، و ننسُج أبهى الدّواوين ولعاً و هُياماً في أمواجِ أديمكِ ما بينَ بسمةٍ تستلقي على أطلالِ المدِّ و تجهُّمٍ يسترخي على حوافِّ الجَزر، وَ أستَحضِرُ أجسادَ مُضغاتٍ لَم تُخلَق بَعدُ، و علقاتٍ تصارعُ القرار ما بينَ إيابٍ و غياب، و أجنّةٍ تُقارعُ المَصير ما بينَ مخاضٍ و هلاك
لِيشارِكنَنِي التّصوُّفَ سُجوداً بحبرِ حروفي الخاشِعة أمام مجيدِ عينيكِ يا خضراءَ اللّآلِئ و ورديّة الوجنتين!
لسيماءِ أحداقكِ يا عَيونَ المَها، سِحرٌ يتغلغل في عُروقي فيَسترِقُني من نفسي على حينِ غِرَّةٍ، كمُخَدّراتٍ لا ألبثُ أن أعتادها حدّ الإدمان منذ الرّمق الأوّل، فلا أكادُ أكمِلُ يوماً أو بِضعَ يومٍ بعيداً عن هندسةِ مِنوالها الفاتن الذي يستوقفُني في كلِّ مرّةٍ زارعاً القشعريرةَ في تكويني، و كأنَّها المرَّةُ الأولى!
فـ بِها الحياةُ، و إليها القنوطُ، و منها الأزرُ، و بين استدارةِ جفنيها يغفو الأزَلُ!
أستسمِحُكَ عذراً سيّدي الرَّصين "جرير بِن عطيّة التميميّ"، فالعُيونُ الَّتي في طَرفِها حورٌ قتلننا ثمَّ أنقذنَ قَتلانا، و أحيينَ موتانا!
يصرعنَ ذا اللبّ إلّا أنَّهُ يقاوم هائماً في خضراءِ جنانهِ و يُعاركُ متعطِّشاً لنعيمِ فردوسهِ، وَهُنَّ أطهر و أنقى خَلقِ اللَهِ أَركانا!
———————————————————-
أتقصَّدُ في هذهِ السّاعاتِ المبجّلة أن أخاطِب ما بقيَ من رُكامِ الشُعراء من إرثِ كلماتٍ ستتناقلُها الأجيالُ حتى خِتامِ الأنفاس، فأنا يا أبو تمَّام، على كاملِ الثّقة أنّني كنتُ بشكلٍ أو بآخر أتوسّطُ ثنايا وتينكَ المُتيَّم عندما نطقتَ بحالي و حالِ كُلِّ مُستهام مختصراً مأساةَ سنينَ في إطار بيت شعرٍ محصورٍ بين قوسين!
"نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ"
إلّا أنَّكَ يا شحيحَ العطاءِ أفلتَّ يدي، دونَ أيِّ إجابةٍ عمّا يختلجُ فِكري المتقلقل من عظيم الأسئلة، دونَ أيّ مفتاحٍ لفكِّ شيفرةِ الحبل السريّ الذي لا يزالُ يربطني بها بعد أكثَر من عشرين ربيعٍ مرَّ على يدِها الدافئة التي لا تكادُ تُفلِتُ زمهرير يدي الصّغيرة إلّا لتمسح بنعومةٍ على جوانبِ وجهي لتتركَ خلفَها فراشةً تجثو على ذروة أنفي و تحميه من بردِ كانون!
أنا مثلكَ يا أبا تمّام، لن يعشقَ قلبي و إن هوى لبرهةٍ عابرة..سِوى محبوبي الأوّل..
و كلانا رغم اختلاف الأزمان و الأعمار، حاربنا المنازلَ و عاركنا المساكن و قاتلنا البيتَ و الدّار بالرّصاصِ و البارود، فنحنُ يا أبا تمّام.. رحّالة!
لا نرقدُ في مقرٍّ، و لا نثبِّتُ أقدامَنا في مقامٍ، نحنُ في رحلةِ بحثٍ باقية عن الوطن و الهدف، و حنينُنا أبداً لأوّلِ منزلِ!
و على خلافِكَ تماماً، عقاربُ ساعاتي تشيرُ إلى ملامحِ أمّي!
فكيفَ لِحبيبٍ أن يتفوَّق على رحمٍ عانقني في دفء تحنانهِ تسعةَ أشهُرٍ، لأفتحَ عيني و أبصرها أمامي مُستهلَّةً قِطارَ حياتي بِطُهر مُحيّاها..
كانت تنتظرني على الطّرف الآخر من الاشتياق..
تكلّمني على الجانب الآخر من الحياة، و تشعر بانتفاضاتي التي لا أعلم عنها سوى القيل و القال..
و ما أن جاءَها المخاضُ، حتى راحت تُهديني دماءَها على طبقٍ من فضّةٍ بسرورٍ و سخاء، و تُطعِمُني عافِيَتها بقُبلةٍ و رخاء، و تسكبُ لي راحتَها في كأسِ أحضانِها بهناء!
كملاكٍ أبيضَ الوجهِ و الجِناح، أذكُرُ منحوتتين خضراوتين متجاورتين يُشبهان أعمال النّحات العالمي هينري مور ، إلّا أنَّ نحّاتَها كانَ اللهُ بديعُ السّموات و الأرضِ!
استقبلَتْني بابتسامةٍ رقيقة و أحضانٍ عاشِقة و نظرةٍ مولعة أوقَعَتْني في شِراكِها مُذ كنتُ أبلغُ من العمرِ ثوانٍ معدودة، أجل يا أبا تمّام، لقد عرفتُ العشقَ منذ مولدي، و حبلُ سرّتي لا يزالُ محاوطاً ثنايا شُغافي، و أخذتُ منذ ذاكَ الحين أنقُّل فؤادي هُنا و هُناك، لكنَّ الحُبَّ فِعلاً للحبيبِ الأوَّلِ!
———————————————————-
في ميلادكِ يا سيّدةَ النِّساء
دعوتُ جبران خليل جبران إلى منصّة الحوار و القلم، فشافَهَني بعبارةٍ سريعةٍ و همَّ بالرَّحيل:
"البعض نحبُّهم لأنَّ مثلهم لا يستحقُّ سوى الحبِّ، ولا نملك أمامهم سوى أن نحبّ!"
و أنا يا سَكينَتي وَ موطِني وَ ملاذي وَ أمَاني، لا أملكُ أمامكِ سوى أن أحبّ و أعتزَّ و أعشق و أفتخر و أصبو و أهوى و أحنُّ و أشتاق و أتمسَّك..
جبران كانَ على حقٍّ يا أمّاه، فمثلكِ أنتِ لا يستحقُّ سوى الحبّ، و لأعطيتكِ فوقَ الحُبِّ حُبَّاً و يمينَ القلبِ قلباً و يسارَ الرّوحِ روحاً لو استطاعتْ نفسي إليه سبيلاً..
أحبّكِ يا ملاكاً أبيضاً بينَ ألفِ ملاك، ها قد نطقَ أحمد شوقي شوقاً للقياك، مضني وليس به حراك، لكن يخف إذا رآك، و يميل من طربٍ إذا ما مِلتَ يا غصن الأراك!
إن الجمال كساك.. من ورق المحاسن ما كساك!
و ما وصفتَ في الحُسنِ يا شوقي إلّا ما ترجّى أجفان ذاكَ الملاك!
و الملاكُ الأوحَدُ هوَ أمّي، أمّي.. يا شوقي و ما أدراك..
لقد تأخّرتُ عن موعدي مع أنيسِ اليراع محمود!
عذراً يا درويش، فمولدُ العظيمة كادَ يُنسيني ضِفافَ الوِصال!
ثِق أنّني أنسى الرّياح، و السُّفُن و البحار
أنسى العاصِمة دِمَشق، و حواريها، و فُتاتَ الخُبزِ
و المدرسة الشّمالية، و ماضٍ تقاسَمتُهُ مع جار
أنسى الحَطَبَ، و المدافئ، و القنابل، و الأمطار
أنسى بيروت و القُدسَ و القذائف و النّار
لكني لستُ أنساكَ يا معلّمي الجبّار..
إلّا في حضرةِ أمّي التي تمحو كلَّ وجودٍ و وقار!
قلتَ لي ذاتَ مرّةٍ، صديقان نحن.. فسيري بقربي كفاً بكفٍّ.. معاً نصنع الخبر والأغنيات لماذا نسائل هذا الطريق لأي مصير يسير بنا؟
فإن كنتُ لأختار..
بينَكَ و العالمين لاخترتُكَ مرّتينَ يا درويش..
و في حضرةِ أمّي يا أيّها الأديبُ المِغوار..
سأختارُها عليكَ و العالمِينَ آلاف المرَاتِ، و سأبقى أندهُ بتراتيل اسمِها المقدّس مع كلِّ خيرٍ يجلبهُ النّدى و مع كلِّ رذاذٍ يروي عطشَ دار..
صديقان نحن يا أُمِّي.. فسيري بقربي كفاً بكفٍّ
فمعاً نبتكرُ المُعجزات..
نخلقُ صيفاً في آذار..
و نَلِدُ شتاءً من رحمِ أيّار!
صديقان نحنُ يا أمّي..فسيري بقربي كفّاً بكفِّ
فمعاً نرمّم ما تهدَّمَ من الجِدار..
و نرسمُ الخيرَ عنواناً و شعار..
كوني لي الشّمسَ، كوني لي المنار
كوني لي القمرَ و النّهرَ و التّيار
صديقان نحنُ يا أمّي..فسيري بقربي كفّاً بكفِّ
كي أحبَّكِ، فمثلكِ لا يستحقُّ سوى الحبِّ، ولا أملك أمامه سوى أن أحبّ!
———————————————————-
في ميلادكِ يا سيّدةَ النِّساء
اسمحي لي أن أُخاطِب العظيم "إيليا أبو ماضي" و أبوحَ لهُ بعشقي لكِ و نقاطِ ضعفي التي تُومِئ جميعها إليكِ
عزيزي إيليا..
سأتّخذُ منكَ خليلاً و رفيقاً يا مَن يتوسَّطُ جثمانهُ بقايا الثّرى، و سوفَ أقفُ عند حُرمةِ قبركَ مُتعرّيةً من كلّ مخاوفي و أحزاني!
لقد جِئتَني في أحلامي منذ رفّةِ جفنٍ و دمعة، عندما كنتُ أحاول دهسَ مشاعري فهي تؤذيني أكثَر من اللّازِم، و همَستَ في أذُني:
"أيقظ شعوركَ بالمحبّة إن غفا..لولا شعورُ النَّاسِ كانوا كالدُّمى"
عندما يتعلَّقُ الأمرُ بأمّي، أتمنّى أن يغفو شعوري في أحضانِ غيبوبةٍ لا مهربَ منها إلّا إليها، أتمنّى أن أكونَ دُميةً يا إيليا!
دميةٌ أو لوحةٌ جداريّة..
أو مزهريّة!
عزيزي إيليا..
أقفُ عند حُرمةِ قبركَ و أبكي بحبر قلمي الذي لن يجفَّ طالما بقيت أمّي حيّة..
فهلّا بُحتُ لكَ بما يُدمِعُ عينيَّ؟
أخافُ عليها!
أخاف عليها يا إيليا..
أخافُ أن يخطُفها العُمر من بين يديَّ!
سُنَّةُ الحياةِ و الكونِ
تقتضي أن تُغادِرَ الفتاةُ كنفَ والديها في يومٍ من الأيّام، فتتزوّجُ و تصبحُ بدورها أمّاً و زوجةً و ربّةَ منزلٍ و لربّما عاملةً و موظّفة إداريّة
فيبقى عشقُ والدتها محفوراً في أنفاق الفؤاد، لكن تقلُّ زياراتُها و ينقص اهتمامها سنةً تلوَ الأُخرى يا إيليا..
تصبحُ زيارةُ أُمِّها التي أهدَتْها سنينَ عمرها مكللّةً بالحبِّ مشرّبةً بالتّفاني، روتيناً مملّاً و واجباً إنسانياً أسبوعيا!
هذا ما شاهدتهُ عينيَّ!
أمّا عنّي؟
فسأتّخذ من أمّي ابنةً ليَّ..
سأربّيها في دفء أحضاني كما غمرتْني في بحار عطائها جاثمَين على ضِفافِ الكلفِ يا إيليّا!
سأمشّطُ بعبقِ أنفاسي شَعرَها الذَّهبيَّ..
و أرتّبُ بِودادِ جوارحي ثَوبَها الورديَّ!
و أصلّي لأمانِها و سلامِها حتى توافيني المنيّة!
سأصلّي كي يخطفني شبحُ الموتُ قبلها يا إيليا!
كي تقومَ يداها بدفني فأوارى الثّرى.. مودّعةً البريّة..
سأصلّي كي نعيشَ سويّة..
و أموتُ وحدي..
لأنَّ الموتَ لا يليقُ بأمثالها يا إيليا!
و بما أنّهُ حقٌّ مفروضٌ على البريّة
سأغادرُ قبلَ أن تُدركها المنيّة..
لكن كيفَ سأكافئها..
و لستُ أقوى في ناصيتها، على لقاءٍ مع شعرةٍ رماديّة؟
لستُ أقوى على بلوغِ يومٍ تصبحُ فيهِ عجوزاً راجفةً محنيّة!
كيف سأكافئها..
و لم أعتَد أن أرَها إلّا شابّةً قديرةً قويَّة!
أبإمكاني أن أُهديها من عُمري عمراً و من نصفي نصفاً يا إيليا؟
أو أغترفَ السّنين فتتجرّع الشّيبَ مِن جسدي و يتجمّدُ الزَّمانُ في حضرةِ روحها الأبيّة؟
أيا ليتَ أمّي تعيشُ حياةً أزليّة..
آهٍ وَ ألفُ آهٍ يا إيليا..
كم أتمنّى أن أكونَ دُميةً
أو لوحةً جداريّة..
أو مزهريّة!
———————————————————-
بقلم : د.نتالي دليلة
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا