«من شهر طلعت من حلب غصب عني، أبي ضربني لحتى غادرت، كان خايف عليّ ابقى تحت القصف»، يقول محمود الشاب العشرينيّ، الذي بات يعمل كصبي نارة في أحد مقاهي اللاذقية بعدما كان يملك ورشة لصناعة الأحذية في حلب، ويتابع مُحاولاً لملمة مفرداته، بعدما ارتسمت معالم من الحزن على وجهه: «بدي ارجع أكيد بحياتي ما فكرت أترك حلب». محمود واحدٌ من سكان حيّ صلاح الدين، المُدمّر تدميراً شبه كلّي، حيث يتعرّض الحيّ منذ العام 2012 لقصفٍ عنيفٍ ما اضطره إلى المغادرة مُكرهاً إذ «لا أحد يُغادر حلب بإرادته»، وفقاً للشاب.لم يتوقّف النزوح الحلبي لحظة واحدة منذ امتداد شرارة الحرب إليها في العام 2012. هجرة قسرية فرضها الوضع الإنساني الكارثي، ما أدى، بطبيعة الحال، إلى انخفاض عدد السكان في حلب. وتُشير البيانات الإحصائية الرسمية إلى أن عدد سكان محافظة حلب في الأوّل من شهر كانون الثاني عام 2011، قد بلغ نحو 5.9 ملايين شخص مُشكّلين بذلك نسبة قدرها نحو 24.2 في المئة من مجموع عدد سكان سوريا، لكن حالياً تغيب الأرقام الدقيقة للعدد الحقيقي لسكان حلب، بحسب ما أكده مصدر مسؤول لـ«السفير». وأشار المصدر إلى أن كل ما نُشر ويُنشر عن عدد سكان حلب الحالي على الانترنت بعيد من الصحة ومبني على عدد المساكن قبل الحرب ونسبة الدمار الذي أصابها. وأكّد أن الحكومة السورية أجرت مسحاً إحصائياً بالتعاون مع الأمم المتحدة عن الأمن الغذائي في سوريا (لم يُنشر بعد)، أظهر أن حلب هي من بين ثلاث مُحافظات رئيسية (إلى جانب درعا والحسكة) شهدت تراجعاً كبيراً وملحوظاً في الحجم النسبي للسكان.واليوم تشتدّ المعارك على جبهة حلب، ويقترب الجيش السوري من السيطرة على أحياء حلب الشرقية، فهل سيكون ذلك عاملاً مُشجّعاً عند البعض للعودة؟غادر الكثير من أهالي حلب مدينتهم واختلفت مقاصدهم، منهم من نزح إلى الداخل السوري (دمشق، اللاذقية، وطرطوس)، ومنهم من ضاقت به السُبل في سوريا فاضطر للرحيل إلى الخارج. سعيد هجرَ حلب منذ ما يقارب السنوات الأربع، واستقرّ في مدينة اللاذقية. كان صعباً عليه التأقلم مع وضع جديد في البداية، إلّا أنه خلال السنوات تلك استطاع أن ينهض مرة أخرى ويبني حياة اجتماعية ومهنية تختلف عن سابقتها. سعيد يرى أن العودة إلى حلب مرتبطة بعوامل عدة أهمها عودة الأمان من جهة، ومن جهة أخرى فتح باب الاستثمارات وعودة النشاط الصناعي والتجاري. وعن احتمال عودته إلى حلب، قال: «ما برجع! حياتي وشغلي وعلاقاتي الاجتماعية صارت كلها هون، أخدت وقت منيح بتكوينها... ما عندي استعداد ارجع ابني حياة للمرة الثالثة»، ويضيف «حتى لو تمّ تحرير حلب من المُسلّحين نهائيا، هاد لا يعني عودة الأمان كلياً، في شي انكسر ومارح يتصلّح». وتساءل في نهاية حديثه عن إمكانية تعويض الدولة للأهالي الذين تضرّرت منازلهم ومنشآتهم الصناعية.رئيس غرفة الصناعة في حلب وعضو مجلس الشعب فارس الشهابي أكّد، في حديث لـ«السفير»، أنه ما إن تتحرّر الأحياء الشرقية تماما، حتى تبدأ موجة عودة الأهالي، وكذلك الأمر بالنسبة لحلب كلها، مُضيفاً: «الدولة الآن تعمل على إصدار تشريع خاصّ بالأحياء الشرقية». وعن إمكانية تعويض الأضرار التي لحقت بالمناطق المدّمرة، يقول الشهابي: «إذا ما تمّ اعتبار المناطق مُتضرّرة ومنكوبة بالكامل وتبعاً لقرارات استثنائية، لن يصدر بشأنها أي تشريعات بالتعويض».تغيّر ديموغرافيوإن كان عضو مجلس الشعب، فارس الشهابي، متفائلاً بعودة الأهالي وغير متأكدٍ من إمكانية الدولة على تعويضهم، إلا أن ذلك لا يمنع القول إن ملامح ومعالم المدينة تغيّرت كلياً بالنسبة لأهاليها. فحلب لم تعد مألوفة لسكانها، وما فقدوه حقاً من الصعب تعويضه. الأمر لا يتوقّف عند نسبة الدمار والخراب فقط، بل ينعكس أيضاً على التركيبة الديموغرافيّة للسكان، التي تغيّرت نتيجة لحركة النزوح المُستمرة حتى لا يكاد يُمكن للبعض أن يُميّز الحيّ الذي نشأ فيه. وأجمع معظم الأهالي ممن التقت معهم «السفير» على أن اللون الواحد قد طغى على معظم الأحياء الحلبية حتى بات الوجود المسيحي «ضئيلاً» مقارنة مع ما قبل العام 2010. كانت المنطقة الوسطى في حلب (مركز المدينة) تضمّ أحياء مسيحية عدّة أبرزها حيّ الميدان (الأكثر تضرّراً) والعزيزية والسليمانية، وبعض أحياء حلب القديمة، لكن مُعظم السكان المسيحيين نزحوا من هذه الأحياء، سواء بسبب وقوعهم عند خط تماس الاشتباكات، أو بسبب القذائف التي استهدفت تلك المناطق بتواترٍ كبير خلال السنوات الماضية، أو لاعتبارات أخرى.فادي أرواس، أحد سكان حيّ العزيزية الشهير، يعمل في تصدير المواد الغذائية، ويُقيم حالياً في اللاذقية، يتحدّث عن الخلل الديموغرافي الذي أصاب منطقته ولاحظه عندما زارَ منزله مع بداية العام الحالي، قائلاً: «لوهلة أحسست أنني في منطقة أخرى لا تُشبه المكان الذي تربّيت فيه، بات الحي مختلفاً كلياً، فنسبة كبيرة من سكان العزيزية وهم من المسيحين باعوا أملاكهم وغادروا، ما أدى إلى تغيير في طبيعة السكان وشكل المنطقة عموماً».ويشرح قائلاً: «من يعرف حيّ العزيزية يعلم تمام المعرفة أنه من الأحياء المُنفتحة في حلب، لكن الآن تبدّلت تلك الصفة تماماً»، وعن إمكانية عودته إلى حلب، يقول: «عائدٌ بالتأكيد، فأضراري توقّفت على الماديات فقط»، لكن فادي يجزم أن من فقد عزيزاً، خلال عمر الحرب في حلب، قد تصعب عليه العودة والتأقلم مع مدينة تركت في نفسه جرحاً عميقاً لا يندمل مع مرور الأيام.وفيما ينتظر فادي إعلان مدينة حلب منطقة آمنة، يترقّب الصحافي مايكل جالقجيان، الذي تنحدر جذوره من مدينة يريفان الأرمينية، أخبار مدينته التي اضطر إلى مغادرتها، قائلاً :»أنتظر بفارغ الصبر عودة حلب إلينا»، ويؤكد «أنا سوري من حلب لا علاقة لي بأرمينيا، حتى أنني لا أملك الجنسية الأرمنية حتى اللحظة، واضطررت إلى مغادرة حلب كغيري هرباً من الموت والفقر والحاجة».عضو مجلس شعب ومتحدث باسم مطرانية الروم الارثوذوكس لأبرشية حلب وتوابعها، جيراير رئيسيان يؤكد في حديث لـ«السفير» أن نسبة كبيرة من المسيحين غادروا إلى وجهات مختلفة، لكن لم يستطع تقدير عددهم، خاصّة بغياب إحصائيات سورية رسمية. وأضاف أن المسيحين «ما زالوا موجودين في حلب بنسبة تدعو للتفاؤل، وهذا ما ألاحظه شخصياً في أوقات المناسبات الدينية». وبرأيه فإن التغيّر الديموغرافي الذي أصاب حلب في الفترة الأخيرة، ما هو إلا «أمرٌ طارئ. ما إن تعود حلب حتى ترجع الأمور لنصابها، الشعب السوري بطبيعته غير متطرّف».«حلب لن تعود كما كانت... سوريا كلها لن تعود»، فثمّة تغيرات جذرية طرأت على عموم المنطقة، فكرة يُؤمن بها أغلب سكان حلب ممن التقت بهم «السفير»، لكنهم على ثقة عميقة بأن الآتي من الأيّام سيحمل معه الفرج المنتظر.السفير
التاريخ - 2016-10-26 8:54 AM المشاهدات 1146
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا