هكذا, بعد سنوات ست من الحرب القذرة سواء بالأرقام المعلنة أو بقراءة الواقع المعيشي، بات السوريون بين حدي طبقتين: الفقر والفقر المدقع! حيث انخفض الحد الأدنى من الأجور في سورية من حوالي 300 دولار في الشهر إلى 40 دولاراً بعد إنخفاض قيمة الليرة أمام الدولار إلى حوالي 11 ضعف أي ما يقل عن 2 دولار في اليوم وهو الحد الأدنى لخط الفقر العالميالطبقة المتوسطة خلال هذه الحرب ليست بأفضل حالاً مما تعرض له الكثير من الشرائح والقطاعات، إذ تكاد هذه الطبقة أن تختفي وتالياً يتراجع دورها، لتشغل مكانها طبقة جديدة تنتجها الحروب وهي فئة أثرياء الحرب، تلك الطبقة التي تنقصها مبادئ وقيم وأخلاقيات العمل الوطني.الباحث الاقتصادي الدكتور رسلان خضور يؤكد أن الطبقة الوسطى كانت تشكل 60% من تركيبة المجتمع، وأنها بمنزلة المحرك الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في المجتمع، لأن الطبقة الغنية غير معنية بتطوير البلد، والفقيرة غير قادرة على ذلك، مشيراً إلى أن هذه الطبقة لو أخذت دورها كما يجب تاريخياً لما كان لدينا هذا الكم من الانحراف الفظيع! بينما هيئة التخطيط الدولي تؤكد أن تراجع أنشطتها الاقتصادية مؤشر على غيابها.لكن القضية أنه بعد هذه الحرب انحسرت هذه الطبقة بطريقة كبيرة.هنا نحاول تسليط الضوء على واقع الطبقة الوسطى وما آلت إليه وكيفية علاج الخلل البنوي الحاصل نتيجة انحسارها.من الواقع المرير ..لا أرقام تدل عليهم فهم إما غادروا إلى دائرة الفقر, وإما إلى خارج البلاد ومنهم من بقي يجاهد للحفاظ على الحد الأدنى من متطلبات الحياة بالتزامن مع صعود طبقة جديدة من تجار الحروب. المهندس عدنان من ريف إدلب ربما لم يذق طعم الفقر يوماً .. فهو ممن كانوا يصنفون ضمن الطبقة الوسطى قبل أن تسيطر التنظيمات الإرهابية على قريته، لينجو بأعجوبة وأسرته إلى إحدى عشوائيات دمشق في منطقة وادي المشاريع وليبدأ حياته من الصفر. لولا المساعدات لتحول إلى متسولفؤاد يحمل اجازة جامعية وغير موظف وهو الابن المدلل لعائلة غنية تملك مشغلا للألبسة اضافة إلى معرض للسيارات في منطقة المليحة .. فؤاد لم يفكر قط بالعمل في القطاع العام فحسب مفهومه كل (موظف شحاذ) إلا أن الحرب حولته إلى مهجر من بيت إلى بيت معتمداً على مدخراته.. ربما هي حياة جديدة لم يعتد عليها من قبل، كالسكن في العشوائيات والغلاء الفاحش لمتطلبات الحياة لأسرة مكونة من خمسة أشخاص، يقول فؤاد لولا مدخراته والمساعدات التي تأتيه من إخوته المقيمين في الخارج لتحول إلى متسول من حديقة إلى أخرى.من مالكين إلى معدمينرئيس جمعية المستهلك عدنان دخاخني بصفته صناعياً وهو ابن السوق، حسب تعبيره، له وجهة نظره كونه يملك منشأة صناعية، إضافة إلى صالتي أفراح في ريف دمشق لكنه لم يسمع عنهم أي شيء منذ خمس سنوات, يقول دخاخني: كوني ابن السوق أعرف أناساً تحولوا من مالكين إلى معدمين تماماً.وأضاف: إن أغلبية الناس التي تعمل بالتجارة تملك حرفاً صناعية أو تجارية في الريف لأن ريف دمشق بيت اقتصاد دمشق, لكن ظروف الحرب أدت إلى انزياح أعداد كبيرة كانت لها مراتب اجتماعية واقتصادية مهمة إلى دائرة الفقر, مؤكداً أن هذا الانزياح ستكون له منعكسات سلبية على المجتمع وخاصة الأسر التي لديها أبناء في الجامعات الخاصة إذا ما عرفنا أن قسط الجامعة يقارب المليون ليرة سنوياً، وحتى أقساط المدارس تصل إلى نحو 250 ألف ليرة والنتيجة تخريب جيل كامل وهذا ستكون له نتائج وخيمة مستقبلاً منوهاً بالكفاءات الشابة التي هاجرت من البلد إلى الخارج.يؤكد رئيس حماية المستهلك: إن النتيجة أدت لظهور طبقة جديدة من تجار الحروب لا تملك قيماً ولا أخلاقاً، والبلد لا يتطور من دون أخلاق وهؤلاء سيشغلون أموالهم في المحرمات أو أداة بيد الآخرين، لافتاً إلى أن الحل في محاسبة الفاسدين.قبل الحربوفي العودة قليلاً إلى الوراء يذكر الباحث الاقتصادي د. أكرم حوراني في ندوة العلوم الاقتصادية أن نسبة السكان في عام 2010 كانت على الشكل التالي: 15% في حالة فقر مدقع و20% مستورين و60%، من الطبقة الوسطى و5%من ذوي الدخول العالية.وفي عام 2016 تضررت الطبقة الوسطى ووقعت بين المستويين الفقر والفقر المدقع وتراجع الدخل 60%، كما ارتفعت الأسعار 700% وظهرت أشكال اجتماعية واقتصادية جديدة ركبت موجة الحرب, واتخذت صورة الكسب غير المشروع, من جراء الاحتكار، إضافة إلى الابتزاز والسرقة دفعت العديد من التجار وأصحاب الأعمال إلى الهبوط من الوسطى إلى دائرة الفقر, أو السفر خارج البلاد، مؤكداً أن حاملة التنمية في خطر كبير وفي مهب الريح لأن عبء التنمية كبير وثمن الاستقرار ليس باليسير.“تراجع حصتها من التعليمالباحث مضر محمد المقداد من هيئة التخطيط الدولي لا يذكر أرقاماً أيضاً لكنه يشير إلى أنه يمكن الاستدلال على تراجع الطبقة الوسطى, بتراجع الأنشطة الاقتصادية والخدمية الموجهة لإشباع حاجاتها، إضافة إلى الظروف الأمنية وارتفاع الأسعار وانخفاض القيمة الشرائية بسبب التضخم وما نتج عنها من انخفاض مستوى الإنفاق الحقيقي للأفراد.ولفت إلى أن الحرب أدت إلى تراجع الخصائص النوعية (التعليمية والصحية), حيث شهد القطاع التعليمي خلال فترة الحرب خسارة كبيرة لفرص التعليم، ما أدى إلى تدمير البنى التحتية للتعليم وتراجع نصيب هذه الطبقة من التعليم بسبب التسرب بين أفرادها وخاصة في التعليم الأساسي, إضافة إلى انخفاض تمويل الخدمات الاجتماعية (التعليم, الصحة, دعم مواد غذائية) وهذا أدى إلى تراجع المستويات المعيشية لها.المبادرة من ذاتهالهذه الطبقة أهمية لكونها المحرك الرئيس لعملية التنمية، إذ تملك المخزون الفكري والاجتماعي والاقتصاي كونها تشكل 60% من المجتمع السوري قبل الحرب والذي يعد رأسمال القدرات البشرية بمفهومها الواسع بامتلاكها هذا المخزون تسهم في بناء الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وحسب الدكتور رسلان خضور عميد كلية الاقتصاد سابقاً إن هذه الطبقة تضم الأطباء والمهندسين والمحامين والاعلاميين والحرفيين والتجار والموظفين مع الأخذ بالحسبان المؤهل العلمي والثقافي، مؤكداً من وجهة نظره أن المأخذ على هذه الطبقة تاريخيا لو أخذت دورها الاجتماعي والسياسي والثقافي لما كان لدينا هذا الكم الهائل من التطرف أو هذا الانحراف الفظيع الحاصل, لذلك تجب في كل حرب الاستفادة من تفعيل دورها بمبادرة من ذاتها وعليها ألا تنتظر أحداً أن يعطيها هذا الدور، لافتاً إلى أنه ممكن أن يكون لها دورها الأكثر فاعلية بشكل أقوى.يصعب التحديدويؤكد د. خضور أن هذه الطبقة تراجعت بمستويات الدخول ولم يحدد نسبة التراجع بشكل دقيق إلا أنه يكتفي بقوله: إن جزءاً كبيراً دخل دائرة الفقر في ظروف حرب هي الأقذر من نوعها، مشيراً إلى أن معيار الدخل غير كاف ليتم تصنيف الشخص من الطبقة الوسطى (فالمهرب للآثار) دخله عال جداً، فليس معنى ذلك أن يكون من هذه الطبقة لأنه لا يمكن أن يلعب دوراً في التنمية منوهاً بالخطورة من الوافدين الجدد وتراجع دور الأبناء الحقيقيين لها.لاتملك حاجاتهايعد مستوى التعليم من أكثر المتغيرات ارتباطاً بالفقر إذ إن 18 % من الفقراء هم أميون وتصل معدلات الفقر إلى أقصاها بين العاملين في القطاعين الزراعي والصناعي كما زادت بين العاملين في القطاع الحكومي بالتزامن مع غياب التخطيط الاقتصادي والاجتماعي عن بعض الجهات الحكومية لاستيعاب ظروف الحرب ووضع البدائل الإسعافية ويبقى الحل في إعادة الإنتاج والبناء المعرفي والأخلاقي للمواطن.والسؤال: ما تأثير انحسارها في المجتمع؟يرى الباحث الاجتماعي حسام الشحاذة أن ما حصل خلال الحرب على السوريين زاد عدد السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر, حسب مسح دخل ونفقات الأسرة لعام 2004 الصادر عن هيئة تخطيط الدولة من 7.33% من مجموع السكان الى نحو 30.13 % لعام 2016 من أصل هذه النسبة «حسب تقديرات الباحث» هناك 20% منهم تصنف ضمن الطبقة الوسطى، مضيفاً أنهم اليوم لا يملكون سد حاجاتهم الأساسية, بشكل متوازن، وهذا ما جعل معدلات الفقر في سورية غير منسجمة مع معدلاتها في البلدان المجاورة.ويبين الشحاذة أن مستوى التعليم من أكثر المتغيرات ارتباطاً بالفقر فأكثر من 18% من الفقراء أميون, وتصل إلى أقصاها بين العاملين في القطاعين الزراعي والصناعي.بسبب الحرب والتهجيرولخص أسباب انزياح نسبة مرتفعة من الطبقة الوسطى إلى دائرة الفقر بأنها تعود لعدة عوامل في مقدمتها ظروف الحرب والتهجير وترك مكان الإقامة الأصلي من قبل العدد من الأسر, وخسارتهم أعمالهم ومواجهتهم ظروفاً قاسية كالسعي لتأمين مسكن بديل حيث ارتفع مستوى الإنفاق إلى ما يزيد على عشرة أضعاف, فبينما كان المواطن من ذوي الدخل المحدود قادراً على استئجار منزل صحي ولائق بمبلغ 10 آلاف ليرة قبل الأزمة غداً اليوم بحاجة إلى مبلغ يتراوح بين 75-100 ألف ليرة ليستأجر منزلاً بأقل من نصف المواصفات الصحية السابقة إضافة إلى جشع التجار الذي ساهم في زيادة نسبة الفقر، وما زاد في عوز الطبقة المتوسطة تحالف بعض المتنفذين الفاسدين مع تجار الأزمة ودخول لصوص الحرب (تجار التعفيش) للمناطق المحررة من قبل بواسل الجيش العربي السوري والاعتداء على ممتلكات المواطنين ما أدى بأغلبية الناس إلى تأسيس حياتهم المادية والاقتصادية من الصفر.أين البدائل الإسعافية؟كما حمّل الشحاذة الجهات المعنية موضوع غياب التخطيط الاقتصادي لاستيعاب ظروف الحرب ووضع البدائل الإسعافية والحلول المتوازنة للحد من ظاهرة الفقر, وغياب المشاريع التنموية التي تستهدف الحد من ارتفاع مستوى المعيشة الذي لم يعد يتناسب مع دخل عامة الناس, إذ لم تكن جهود بعض القطاعات الحكومية مؤثرة وفاعلة بالقدر المنشود إضافة إلى ارتفاع معدل الفساد بنسب مرتفعة وبروز العامل المادي أساساً للتقييم الاجتماعي.الإدارة السليمةيؤكد الباحث على ضرورة توسيع قاعدة الطبقة الوسطى من الناحية الاقتصادية في الإدارة السليمة بما يؤدي إلى منعكسات إيجابية توفر المناخ الملائم لتوسيع قاعدة الطبقة بحيث تركز على تحقيق قيم مضافة عالية, وتنظيم سوق عمل واستحداث فرص العمل اللائقة للعاملين والعاطلين عن العمل مع ضرورة تشجيع المهاجرين واللاجئين للعودة إلى وطنهم الأم.. وأضاف أنه يجب إيلاء الأهمية الاجتماعية لتوسيع هذه الطبقة من منظور تنموي لرأس المال البشري بتوفير الخدمات الصحية والتعليمية لكل شرائحها المتضررة من خلال تأهيل البنى التحتية الصحية والتعليمية في المناطق المتضررة ومن منظور الحماية الاجتماعية عن طريق دعم مكوناتها من ناحية التأمين الاجتماعي وإعانات البطالة وتقديم الخدمات الصحية مع ملاءمة الدعم لأولويات مرحلة إعادة الإعمار وتوزيع منافعها على جميع الفئات السكانية الأكثر فقراً والمعرضة للفقر.إعادة توزيع الثرواتمن وجهة نظر الباحث الاقتصادي د. خضور: للطبقة الوسطى دور مهم لكونها حاملة النمو, ففي حال انحسر هذا الدور تبقى الطبقة الغنية غير معنية والفقيرة غير قادرة وهنا تكمن الخطورة إذ من يكون المعني بتطوير المجتمع اجتماعياً وثقافياً؟ وأضاف: كي تستطيع أن تبني نفسها وتكوّن رأس مال بشري واقتصادي وتأخذ دورها كما يجب من خلال إعادة توزيع الثروات على الأقل نعطي لهذه الطبقات إمكانات أن تكوّن نفسها من خلال إعادة النشاط الاقتصادي وإعادة توزيع ثروات ما يسمى (أثرياء الحروب)، (ملمحاً) أنهم معروفون بالإسم في كل منطقة وفي كل بلدة، والتركيز في الانفاق على الصحة والتعليم وإعادة الاستثمار على البنى التحتية والإصلاحات المجدية.. وبالرغم من أن تنفيذ ذلك في ظروف الحرب فيه صعوبة كبيرة، لكن ذلك لا يعني التوقف إذ يوجد أناس دخولهم عالية كالقطاع الخاص الذي عليه دفع التزاماته من خلال دفع ضرائبهم وهذه مسؤولية وزارة المالية. خريطة إحصائيةأهم سبل المواجهة، حسب الباحث الاجتماعي الشحاذة، هو تخفيض معدلات الفقر بين أبناء الطبقة الوسطى ومحدوي الدخل من خلال تضافر الجهود بين جميع الأطراف المواطن أولاً والحكومة والقطاع الخاص, لافتاً إلى أنه على المستوى الحكومي لم يتم العمل على تنظيم خريطة إحصائية وطنية, قابلة للتحديث المستمر لرصد نسب العوز والفقر بين الأسر المهجرة والمواطنين الفقراء، فتلك الخريطة لها دور كبير ومهم في تخطيط الجهود, وإعادة توزيع الموارد المادية والبشرية للحد من الفقر وذلك بما يحقق العدالة الاجتماعية, كما أن هذه الخريطة تساهم في صنع القرار على المستوى القومي للحدّ من الفقر وجعله في أدنى مستوى له.غياب منظومة الأمانيؤكد أيضاً أن جهود القطاع الخاص وتوجهات الرأسماليين الوطنيين لم تلق العناية الكافية والتشجيع المطلوب خلال سنوات الأزمة, فمعظمها هاجر إلى خارج البلد وما بقي منها يعاني من ابتزاز بعض المتنفذين والفاسدين من جهة, بالتزامن مع غياب الرعاية الحكومية لتأمين البنية التحتية الملائمة للنهوض مجدداً بالاقتصاد الوطني من جهة ثانية، وهذا ما سماه غياب منظومة الأمان الاجتماعي والاقتصادي بالنسبة للرأسماليين الوطنيين بالتزامن مع العمل لإعادة الإنتاج المعرفي والثقافي والاهتمام بالجانب الأخلاقي.لا إحصــاء عند الإحصاء!بداية حاولنا الحصول على أرقام ومعلومات من مكتب الإحصاء المركزي إلا أن الرد كان يؤكد عدم توافر أي معلومات أو أرقام لديهم أو حتى مؤشرات أو دراسات بهذا الشأن.الحدث - تشرين
التاريخ - 2017-04-01 1:43 PM المشاهدات 2183
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا