وأنا عائدة من مكتبي كالمعتاد أستذكر ما الذي عليّ أن أفعله بعد ظهر هذا اليوم وماهي المواعيد التي لم أتمكّن من تلبيتها خلال ساعات الدوام العادية وما إذا كانت عليّ أية زيارة أو تعزية مستحقة لأصدقاء. وتذكرت أنه ليس عليّ اليوم أي من هذه الواجبات فهذا زمن كورونا حيث نبقى في المنازل مع أسرنا ولا نزور ولا نستقبل حتى أقرب المقربين. وبعد أسبوع من هذا النظام، الذي فُرض علينا لدواعٍ صحيّة، وجدت أنه لدي وقت أفضل للقراءة والكتابة والتفكّر بمواضيع كنت أتمنى أن أخصص لها بعضاً من وقتي وأن أصل إلى استنتاجات ما بصددها. وتساءلت: هل يمكن أن يكون زمن كورونا، رغم كل ما جلب لنا من الكوارث والفقد والخوف والمرض، هل يمكن أن يكون له فوائد ما في بعض جوانبه؟ لقد كانت الشكوى الأساسية قبل كورونا هي ضيق الوقت وعدم وجود الساعات الكافية في النهار لننجز كلّ ما يتوجب علينا إنجازه، واليوم أسأل: هل كانت تلك السرعة في أسلوب الحياة مجرد محاكاة لاشعورية للسرعة التقنية التي يستخدمها الإنسان دون التوقّف والتفكّر بما يحتاج وما لا يحتاج، وبما هو مفيد وما هو غير مفيد؟ هل انساقت البشرية وهي راكضة في مضمار التنافس على استحواذ الأشياء دون أن تتأكد فعلاً ما هو الضروري من غير الضروري؟ وهل كانت كل الفعاليات والزيارات التي كنا نقوم بها ضرورية لنا وللآخرين؟ أم أننا فقدنا التركيز على أولوياتنا المهمة وواكبنا ما هو مقبول ومرغوب مجتمعياً؛ فتقلّصت المساحة الخاصة فعلاً بنا لتفسح المجال للمساحات التي نتوهّم أنها محبذة من قبل الغير؟ وهل يمكن لنا اليوم رغم كلّ المعاناة البشرية أن نعتبر زمن كورونا فسحة للمراجعة والتأمّل؟ فالكثيرون من الأهل يتعرفون على أولادهم للمرة الأولى لأنهم يجلسون معهم في المنزل ساعات طوال لم تتح لهم في الماضي أبداً؛ وكأن أفراد العائلة الواحدة يكتشفون بعضهم للمرة الأولى والسؤال هو: ما هو الشيء الذي كان يشغل الجميع، ووراء ماذا كان الجميع يركضون ويتسابقون؟
إلا أن نتائج كورونا لا تقتصر فقط على الناحية المجتمعية بل يبدو أن زمن كورونا سيكون له ارتدادات سياسية واقتصادية وكونية لا يمكن لأحد أن يتوقع ابعادها اليوم؛ إذ مازال الوقت مبكراً لاستقراء النهايات التي ستنتهي إليها هذه الفترة على كلّ الصعد، ولكن يمكن لنا اليوم أن نقرأ المؤشرات وأن نحاول التوصل إلى استنتاجات مبدئية قد تضيء لنا ما نتوقعه في القادم من الأيام. لقد برهنت كلّ التخرّصات حول الصين وطبيعة الطعام وطبيعة الحياة والتاريخ، والتي تناولها البعض بجهل والبعض الآخر بحقد ممنهج، برهنت جميعها على أنها ضرب من السخافة وأن من تشدّق بها لا يملك البصر ولا البصيرة، وبرهنت الأيام التي تلت ابتلاء الصين أن الابتلاء هو عالمي وأن أحداً لن ينجو من هذا البلاء، ولذلك بدأت بعض الدول تدرك وللمرة الأولى أن استكبارها لن يجدي نفعاً وأنها ورغم كلّ ما تباهي به من قوة فهي في النتيجة جزء من أسرة إنسانية يصيبها ما يصيب هذه الأسرة من مرض أو ضعف أو وهن. وبهذا الصدد فإن كورونا كشف وبشكل لاريب فيه أن الفوقية الغربية لا محلّ لها بعد اليوم بين الدول وأن الوقت قد حان ليتخلّى مستعمرو الأمس عن عنجهيتهم واستهانتهم بالشعوب الأخرى، خاصة وأن إعلامهم قد برهن أنه يضخّم من إمكاناتهم وقدراتهم كي تبقى مسحة التفوق حاضرة في أدائهم وتصرفاتهم مع الآخرين. فمن كان يصدّق قبل شهرين من اليوم أن الصين وروسيا سوف تتسابقان لإنقاذ إيطاليا من هذا الوباء، بينما لم تفعل ألمانيا أو الولايات المتحدة شيئاً لمساعدة عضو في الاتحاد الأوروبي؟ ومن كان يصدّق قبل أشهر أن إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة وبريطانيا ستُظهر العجز الذي أظهرته في المعدات والتجهيزات الطبية، وأن الولايات المتحدة لا تمتلك 1% من أجهزة التنفس التي قد تحتاجها لمواجهة كورونا؟ هل قوة هذه البلدان مازالت قوة عسكرية فقط مجهزة لاحتلال أراضي الغير ونهب ثرواتهم دون أن يكون التركيز الأول والأساسي هو صحة ورفاه هذه الشعوب؟ ومن هنا انطلقت الأسئلة حول طبيعة الحكم في هذه البلدان وما إذا كانت أولوياتها تركّز على صحة مواطنيها أم على الحفاظ على ثروات
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا