أيقظت الحرائق الأخيرة الكثير من الملفات التي تم تجاهلها رغم توفر العديد من أدلة الإدانة على التقصير وضعف الأداء، سواء من مديريات الزراعة أو من الوحدات الإدارية بمختلف مستوياتها، حيث بدا واضحاً غيابها عن المشهد الخدمي وعدم قيامها بالمهام الموكلة لها على أكمل وجه، والسؤال هنا: أين كانت هذه الجهات التي أشبعت يومياتها بالكثير من التصريحات عن الجاهزية والاستعداد لأي طارئ؟ وكيف بين ليلة وضحاها باتت آلياتها ومعداتها قديمة ومتوقفة عن العمل، بينما فواتير إصلاحها وقرارات صرف المحروقات ما زالت مستمرة؟ وهذا الوضع يمكن تعميمه على كل البلديات التي تركت كما يقال الحبل على الغارب في غياب المساءلة والمحاسبة من قبل الجهات الرقابية والمسؤولة عن متابعة الجاهزية!
إذاً، الحرائق كشفت المستور وأذابت ثلوج الإهمال والتقصير، وبيّنت مكامن الخلل والفساد، وعلى الرغم من أن فاتورة هذا الكشف كانت كبيرة ومؤلمة وطنياً إلا أنها بعد وقوع هذه الأضرار ستكون كفيلة بإبعاد مظلات الحماية التي ساهمت في تجذر الأخطاء واستمرار المخالفات والتجاوزات، لذلك يجب البدء بتقليم تلك الأيدي الخفية التي استسهلت العمل واستثمرت مواقعه على حساب المصلحة الوطنية فما يجري في الوحدات الإدارية ليس خافياً على أحد، ويتم أمام أعين كل الجهات دون أن تتحرك؟!.
بالتوازي، هناك مسؤولية واضحة على مديريات الزراعة التي لا يسبقها أحد في إطلاق حملات التشجير، وزراعة آلاف الأشجار التي لا تعيش لتضيء شمعة عامها الأول، حيث يقتص منها العطش والتجاهل لتكون مجرد أرقام في روزنامة الإنجازات الصاروخية التي لم تستطع بالتعاون مع الوحدات الإدارية والحراجية شق الطرقات الزراعية لعدم توفر الاعتمادات المهدورة في غير أماكنها الصحيحة، ولن نزيد هنا فالقضية واضحة وضوح الشمس لمن يريد رؤيتها فقد تركت الثروة الشجرية ولسنوات عديدة لمصيرها المحتوم بالقطع والتحطيب والحرائق، وبشكل يثبت حالة التسيب التي جعلت من المناطق المشجرة أهدافاً سهلة لتكون في طريقها إلى الزوال خلال فترة بسيطة ما لم تتحرك الجهات المعنية لإنقاذ المناطق الخضراء في بلدنا، وما يجري في هذه المناطق يمكن تعميمه على المحافظات كافة، وهنا نستشهد بمأساة الغوطتين في محافظة ريف دمشق التي تخلت عن الغطاء النباتي الشجري لصالح مخالفات البناء والتجاوزات بمختلف أشكالها.
وفي ظل هذه الحقائق والإدانات، تبرز تلك التساؤلات الباحثة عن دور المديريات الزراعية والوحدات الإدارية بالمراقبة والمحاسبة في ظل حزمة من القوانين التي تحمي الشجرة، وتكسبها حصانة ضد أعواد الكبريت ومسننات المنشار والبلطات القاطعة وشفرات التركسات القاتلة التي التهمت آلاف الأشجار، سواء تحت عنوان البناء المخالف ضمن المناطق الزراعية أو تلك التي تندرج في خانة البديل عن غياب المازوت والكهرباء المستخدمة في التدفئة، واستثمار ذلك من قبل بعض التجار لاستغلال المواطن وتدمير بيئته.
وطبعاً، واقع الثروة الحراجية وما آلت إليه خضرتها المحترقة والجرائم المرتكبة بحق الأشجار التي اجتمعت أسباب عديدة لإزاحتها وتغييبها من القرى والمدن، يفرض المطالبة بتكليف وزارة الإدارة المحلية ووزارة الزراعة بإجراء مسح فوري للثروة الشجرية، واتخاذ إجراءات سريعة في مسارات التشجير، ووضع موازنة مستقلة لهذه الغاية وبصورة عاجلة محاسبة البلديات المخالفة إلى جانب العمل مع وزارة العدل لاستصدار قوانين جديدة أو إحياء القوانين السابقة لحماية المساحات الخضراء والأشجار، فهل ستأخذ توجيهات السيد الرئيس بشار الأسد خلال جولته في ريف اللاذقية ومشتى الحلو في اليومين الماضيين طريقها إلى التطبيق العملي بالسرعة المطلوبة وبعيداً عن مختلف الذرائع الجاهزة مسبقاً لدى كل الإدارات المهملة والفاشلة؟ وهل ستشهد الفترة القادمة ولادة تشريعات صارمة تحمي المناطق المشجرة أياً كان موقعها (داخل أو خارج المخططات التنظيمية) بحيث تكون رادعة في عقوباتها إلى حد إدراجها ضمن عقوبات مكافحة الإرهاب؟ أم سيترك هذا الكائن الشجري ضحية للحرائق وللمسننات والشفرات القاطعة بحضور تلك البصمات التي تستثمر البشر والحجر والشجر في معادلة التخريب وبناء ممالك الثروة في غفلة من القانون؟
البعث
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا