بقلم : حسن غندور
ليس غريبًا أن تبدأ الوفود الدولية بزيارة طهران، وأن تتهافت الشركات الغربية التي تعاني ما تعانيه منذ الأزمة الاقتصادية عام 2008 لزيارة طهران وحجز مقعد في القطار الاقتصادي السريع الذي سينطلق بعد دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ. لكن اللافت أن يكون الوفد الأممي برئاسة المبعوث الأممي دي مستورا هو أول الواصلين، فهل بدأت مفاعيل الاتفاق تنعكس ترتيبًا لملفات المنطقة وتعبيدًا سياسيًا لطريق الاقتصاد الآمن وغير المتفجر؟
لا شكّ أنّ مسارًا سياسيًا بدأ بمصالحة تاريخية مع كوبا بعد خلاف دام أكثر من خمسة عقود، واستكمل مساره باتفاق تاريخي آخر، من إيران يؤكد أنّ منظومة الحكم العالمية التي تقود أوباما، تحاول اتباع سياسة تصفير المشاكل بين أميركا والعالم بدءًا من سحب جنود الاحتلال الأمريكي في العراق وتخفيف عديد جنود الايساف في أفغانستان بانتظار اتفاق الانسحاب الأمني وترتيباته مع الروس والإيرانيين، وصولاً إلى اتفاق جنيف الذي أعاد الجمهورية الإسلامية بقوة إلى الأسرة الدولية. ولا شكّ أيضًا أنّ الخيارات السابقة للإدارة الأمريكية بتسعير المشاكل مع العديد من دول العالم لتصريف السلاح وابتزاز الدول، قد انعكس انهيارًا اقتصاديًا لمنظومة المال والاقتصاد في 2008 حينما أفلس أكثر من ثلاثمئة بنك أمريكي وتأزم وضع الرهان العقاري الذي هدد الكيان الأمريكي بالإفلاس والانهيار. فما كان على المنظومة المالية العالمية إلا أن تغير من تكتيكاتها وتنتقل من مفهوم الحرب المباشرة إلى مفهوم الحرب بالوكالة، تمهيدًا للانطلاق بمفهوم الشراكة الاقتصادية مع شركاء الاقتصاد العالمي من الصين إلى غير مكان.
بهذا المعنى، ذهب الأمريكيون إلى مغامرة جديدة، وهي الأمن مقابل الاقتصاد، وكان بيدهم عصا "إرهابيي الإسلام السياسي" وجزرة الملف النووي لفرض معادلة بات واضحًا عنوانها "طريق شنغهاي أو طريق الحرير تمر من بيروت ودمشق وبغداد واليمن".
في المقابل، فإنّ الجمهورية الإيرانية حرصت على عدم الحياد عن ثوابتها فيما يتعلق بمقاربة قضايا المنطقة وعلى رأسها قضية فلسطين المركزية وقضية الإرهاب التكفيري. فقد جاءت تصريحات المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي بمثابة دفتر شروط لسلوك هذا الطريق، قوامها التشبثُ بالثوابت والابتعاد على الارتهان. وفي تصريحات العديد من المسؤولين الإيرانيين اليوم وعلى رأسهم مستشار الإمام الخامنائي، علي أكبر ولايتي، حول تعزيز خيار دعم المقاومات في المنطقة، رفع سقف عال أمام ديميستورا يشبه في تكتيكه الأسلوب الذي اتبعه الوفد الإيراني المفاوض أيام جنيف، فقد وضعت عناصر القوة على مائدة ديميستورا ليختار منها ما يشاء لا أن يفرض ما يتمنى في سوريا التي تشكل جناحًا مركزيًا لمحور المقاومة والتي شكل استهدافها عنوانًا صدامًا من الجمهورية الإيرانية بالمباشر وغير المباشر.
لذلك، فإنّ الإيراني يسعى لإعادة ترتيب المنطقة من دون الخضوع للابتزاز الأمريكي، وهو ما عكسته التصريحات الإيرانية النارية في اليومين الماضيين. فإيران المتمكنة من عناصر قوتها، وخصوصًا بعد تخلصها من تبعات المواجهة مع الغرب بهذا الاتفاق، تحاول تزخيم الدعم لحلفائها في المنطقة كما تؤكد التقارير المتحدثة عن تغير جديد في قواعد المواجهة بعد الاتفاق.
وعلى مبدأ "خذ وطالب"، بدأت إيران بتثبيت الخطوط الحمر في علاقتها مع الغرب، تمهيدًا لمفاوضات جديدة ومتكافئة تحقق للأمريكي أهدافه بالانتقال من مرحلة الحرب بالوكالة إلى مرحلة التسويات الاقتصادية مع كبريات الاقتصادات الواعدة من بحر الصين وصولاً إلى خليج فارس. ولهذا، فإنّ الولايات المتحدة تخلت جزئيًا عن مباركة خيارات التصادم الذي تقوده تركيا والسعودية وقطر، لصالح مشروع التسوية القادم والذي ترفضه الرياض وأنقرة وتدفع ثمنه أمنيًا الآن من تفجير حاجز الأمن في الرياض إلى تفجيرات تركيا الحدودية، في رسالة واضحة من الأمريكين بنقل كرة النار إلى تركيا والسعودية إذا ما أصرّتا على اتباع نفس النهج في سوريا والعراق واليمن وغيرها.
من هنا، تأتي زيارة ديميستورا إلى طهران لجس النبض وتسلم دفتر الشروط للذهاب إلى عملية تفاوض لإنهاء الأزمة السورية، وإيجاد حل سلمي لها لا يتناقض مع طبيعة تشابك المصالح والرؤى بين إيران وحلفائها وعلى رأسهم سورية الأسد.
لا شكّ أنّنا دخلنا مرحلة التفاوض لترتيب البيت الإقليمي وإعادة تشكيله، وعلى ما يبدو فإنّ الإيرانيين ذاهبون إلى جولات جديدة من التفاوض وهذه المرة عنوانها الهدوء في المنطقة مقابل التفاهمات الاقتصادية على امتداد "طريق الحرير". مفاوضات ليست بالسهلة، ولكنها تملك عناصر القوة التي تسمح لها بتحقيق انتصار آخر وكسر المشروع الصهيوني التفتيتي وإنهاء مفاعيله.
أمريكيًا، ليس على أوباما إلا أن يتبع "الصبر الاستراتيجي" مع طهران للوصول إلى نهاية ولايته بسلام، وفي سجله الرئاسي ملف كوبا وإيران وبعدهما سوريا التي قد تطيح "بإنجازاته" إذا ما خرج من الحكم والشرق الأوسط -خصوصًا سوريا- ما زال يسقيه شلال الدم.
التاريخ - 2015-07-23 10:13 AM المشاهدات 937
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا