سورية الحدث _ خاص
وجدتكَ اليوم كما لم أجدكَ يوماً، تشاركنا لحظات لا تُنسى، في حياةٍ غريبةٍ أعيشها، لا شيء عادل ولا مرغوب متاح، دائماً ما تجمعني الأقدار بمن يخطفون من روحي بعضاً و يرحلون
في مهنةٍ عسيرة أمارسها، لا وقتَ للمزاح أو الضحك، ولا وقتَ للحياة.
وجدتكَ اليوم كما لم أجدكَ منذ شهرين، في الطابق الثالث، كانت زياراتي لكَ تزداد عمقاً و شغفاً و عطاء مُتبادَل، لم تكُن محضَ "مريض" أتى و رحل، بل مجرّةً كاملةً من الأسرار و الآلام و الدموع كان عليَّ سبرُها
كنت أشربُ قهوتي صباحَ كل يوم معك أنت بالتحديد، أما عنك، فقد كُنتَ في حالٍ يُرثى لها، فقدتَ القدرة على البلع و التكلّم و تناول الطعام و حتى الحركة، مشلول القدمين نشيطَ المُخِّ، مربوطَ اللسان قويّ القلم، رغم أنّني لم أسمع صوتكَ يوماً، إلا أنّك كنتَ تكتب لي كلّ يوم
تكتب لي عن معاناتك، مع مرضك، منذ تمَّ تشخيصهُ من سبعة أشهر و أنت على هذه الحالة، في الخمسين من العمر كتبتَ لي ذات مرّة أنّك قد ذُقتَ من مرارة الحياة ما لن تفهمهُ عشرينيّة في مقتبل العمر بعد، لكنّكَ وجدتَ كلّ شيء صغير منذ جاءكَ المرض
كتبتَ لي ذات صباح "عزيزتي، كنتُ عقيداً في الجيش في يومٍ من الأيام و تعرّضتُ لأقسى أشكال العنف و التهديد، لم أنكسر يوماً و لم أشعر بأنني ضعيف، قاومت و كافحت و قاتلت في سبيل حياتي و انتصرت، أما عن الآن، انظري في حالي الآن، لا فمَ ينطق، ولا فمَ يبتلع الطعام، ولا قدم تسير، أعيش على فغر الرغامى و فغر المعدة و ما تبقّى من شفقة أقاربي"
أكملتَ الكتابة لكنّني لم أكمل القراءة، شعرتُ بعالمي ينهار، في عالمي، أعيش ألف حياةٍ في اليوم الواحد، فكلّ كتاب يعطيني روحاً جديدة، و كلّ مريضٍ ينتزع منّي روحاً
في سابق عهدي، كنت أحبّ توطيد العلاقة بين الطبيب و المريض، و كنت من مناصريها إلى أبعد حدّ، لكنّني و بعدما تعمّقتُ بك، و عرفتُ عنك و عن ماضيكَ و حاضركَ ما عرفت، استحقرتُ هذه الحياة، تمنيت للحظة أن أخلع رداء الطبابة و أتخلى عن حلم الطفلة التي تبكي في أعماقي و أهبكَ ما تبقّى من عمري كي تكمل علاجك فتحقّق حلمك بالكلام أقلّه!
تمنّيتُ أن أهبكَ صوتي كي تصرخ بأعلى صوت، في وجه كلّ من ظلمك، تمنّيت أن أهديك ساقَيّ و شبابي و طاقتي و نشاطي كي تركض خلف كلّ من قام بإيذائك، و تنتقم لحقّ الغرفة ٥٠ التي لم يكن يزورها سوء شخص أو اثنين طيلة إقامتكَ بالمشفى
تمنّيتُ أن أصرخ عنك، في وجه دنيا ظالمة سلبتكَ كلّ حقّ في الدنيا يجعل منكَ بشراً حتى عدتَ تنتظر فتات شفقة أو رحمةٍ من عامل نظافة أو غيره ليقوم بسحب المفرزات من فغر معدتك الهزيلة
اسمعني جيداً، و سامحني كثيراً، كان عليَّ أن أنقذ ما تبقّى من قلبي و أفهم جيّداً أن على الطبّ أن يبقى مهنة أمارسها كرجل آليّ مجرّد من العاطفة و إلا، خسرتُ نفسي وراءكم جميعاً
أسأتُ استخدام مكانتي حينما حكمتُ على نفسي بالإعدام و مارستُ مهنتي بعاطفةٍ أغرقتني و أغرقت جميع من حولي، كتبتَ لي في إحدى المرّات " أقسم لك إن حدث و خرجتُ من هذا المكان لن أنسى معروفك و سأردّهُ بقلب نابض و روح ممتنّة"
أعطيتني الورقة بعينين دامعتين، فأدمعت قلبي وعيوني كامدة لم تكن ترى..
بقيتَ تنتظرني كلّ صباح لأشرب قهوتي معك فتكتب لي و تشرح لي عن آلامك و معاناتك، و أكتب لك بدوري، حكايةً عن صمود الملائكة و كيف لهم أن يتعذّبوا كي يدفعوا ضريبة كونهم ملائكة بين البشر
بقيتَ تنتظرني، وأرسلتَ لي الكثير من الرسائل و الأخبار إلا أنني اختفيت، أو بالأحرى ادّعيتُ الاختفاء في حين كنتُ أتابع أخبارك بشكل يوميّ
ما لَم أستطع البوحَ به يوماً.
وجدتكَ اليوم كما لم أجدكَ يوماً، صباح الأربعاء لفتت نظري ورقة معلّقة على باب المشفى
كانت نعوة باسمك قد أعادتني شهرين إلى الوراء، بعدما تجاوزت و تناسيت، أجبرتني على البوحِ بما لم أستطع البوح لك
لم أنعيك، بل نعيت أنفسنا، نحن الباقون في حياة سوداء ظالمة لا تعرف عن العدل إلا اسمه، وأنت الذي ذقتَ من العذاب أمرّهُ، قد رحلتَ إلى مكانٍ ينتهي فيه عذابك، يتلاشى فيه وجعك
أتدري ما الذي واساني و ساعدني على إكمال يومي؟
أنّك الآن في مكانٍ تستطيع فيه أن تصرخ
و تتكلّم
و تأكل
و تشرب
و تغنّي
تستطيع أن تمشي
و تقفز
و تركض
وتهرول
لن تنتظر من أحد أيّ شيء، لأنك تستطيع أن تقوم بكلّ شيء
لن أنعيك بل سأنعي أنفسنا
و لن أطلب الكثير، فقط سامحني، لأنني اختفيت، لقد كنتُ هنا طيلة الأيام، لكن من بعيد، أراقب و أسأل و أرتشف وقع الصدمة القادمة ببطء كسمّ أفعى يجري في شراييني دون أن تعلم، مازلتَ حيّاً في قلبي و قلوب الكثيرين
شكراً لأنّكَ أنطقتَني..
بما لم أستطع البوح به يوماً.
د.نتالي دليلة
١٣/٧/٢٠٢٣
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا