الدكتور عفيف دلا
على مقربة من الصراع توقفنا قليلاً ، دون أن يطالنا لهب أسباب الصراع اللامتناهية، ننظر إلى أطراف الدروب المعمدة بالدم، تجتاحنا الحسرة ربما في لحظات ثم نستأنف المسير، دون أن ننظر في أعماق الذاكرة وندرك أنها ليست المرة الأولى التي يرتسم التاريخ على هذه الأرض بالدم .. فاعتيادنا على ملامسة النتائج دون مقاربة الأسباب تجعلنا نرى بعيوننا لا بقلوبنا،
لم ننتبه أن هذا الصراع المحتدم اليوم، هو في صفحات تاريخ قرأناها سابقاً دون أن نصل إلى نهاية الكتاب، فهذا هو الكتاب الذي لا يعرف نهاية لأنه يختزل كل أفكار البشر المتصارعة بين الخير والشر وهو مستمر باستمرار وجودهم.
فالإنسان بذاته إشكالية لا متناهية وبحكم إشكاليته بات كل ما يدور حوله موضع جدل فلا إجماع لشيء لديه فمواقفه قابلة على الدوام للحركة والتغير، وكل محاولات الضبط بفكره باءت بالفشل فهو قوي بعقله ، فهو يجيد البناء بمقدار ما يجيد الهدم، ويجيد التقوقع في واقعه بقدر ما يتقن التحليق بمستقبله، لكن المشكلة تبقى تفاوت القدرة في توظيف قدراته وتوجيهها بالمعنى الجمعي لا الفردي، فربما نلمس تأثيرات فردية في الجماعة، ونرى مبادرات قابلة للتطور لكنها تقف عند حد معين مهما تنامت .
وما يدعو للتأمل في أفكار من هذا النوع هو الاستشعار بالخطر المستهدف للوجود الإنساني فغياب إدراك الفرد لقيمته في حياة الجماعة، وقصور توظيف طاقات الجماعة والحفاظ عليها أثر بشكل كبير على واقع نهضة الإنسان وعلى وجوده كمنظومة مفاهيم وقيم متوارثة.
فصراع القيم بين الوافد الجديد والموروث القديم مع الأخذ بالحسبان غياب الإجماع وتنامي نزعة التمرد على الموروث الناجم عن فقدان القدرة على التقييم الموضوعي لهذا الموروث بمعنى تنقية الأصيل فيه من الهجين الداخل عليه حدت من حركية التطور بشكل كبير وخلقت متسعاً من التناقضات المتأرجحة بين التعريف وإعادة التعريف وفق معايير لا تتوقف عن التغير عبر مراحل التاريخ.
فالدين الذي جاء ليحقق حالة إجماع تفضي إلى استجماع عناصر قوة في الفهم والممارسة قد بات اليوم عامل تفرقة وانقسام، لا بل أمسى أداة صراع فكري وإنساني فاعلة، والمشروع السياسي كمشروع حاول التعويض النسبي عن قصور الدين في مراحل لاحقة؛ قد واجه الكثير من التحديات التي أجهضت أبعاده البنائية وحولتها من مشروع نهضوي مفترض إلى وسيلة لتحقيق مكاسب معينة تصب في حاصل الأمر في مصلحة فئة دون باقي الفئات.
إن هذا الإنزياح في منظور الإنسان لوسائل وأدوات النهضة ارتكز إلى عاملين أساسيين :
غياب الإجماع الناجم عن التفاوت في مستوى الوعي والأداء بين المجتمعات.
تكريس حالة التفاوت هذه بين المجتمعات وحتى في المجتمع الواحد ما أدى إلى خلق فجوة إنسانية أطلقت عليها مسميات جغرافية لإعطائها صبغة الحالة الطبيعية فبتنا نعرف مصطلحات الشمال والجنوب، والدول المتقدمة والنامية.
وفي الصراعات التي حدثت في التاريخ، كثير منها جاء لتكريس التفاوت بين الشعوب وجعلها تغرق في بحور الجهل والتخلف سواء بدواعي الدين وخلافاته المذهبية أو بدواعي التوسع وأطماع السيطرة وتعظيم الثروة، وفي صراعنا اليوم استحضرت الكثير من أسباب الصراع واستخدم العديد من أدوات تأجيجه ليبقى مستعراً وليبقى أثره على القادم من السنين في ذهنية الأجيال اللاحقة، وهذه الصراعات لن تتوقف طالما أن مسبباتها في حالة وجود مستمرة وأدوات تأجيجها في تطور مستمر أيضاً من حيث الشكل والمضمون ، وهذه الأدوات تلقى صدى في ذهنية الشعوب فالعامل الديني يعتبر اليوم أهم أدوات الصراع المستدامة نتيجة فقدان القدرة على التعاطي معها باعتبار أن العامل الديني محصن بدعايات القداسة ومحرك كبير للنزعة الغرائزية المرتبطة بغيبيات غير مفهومة حتى اللحظة بالنسبة للإنسان، فحتى الجزء الذي يعتبر مفهوماً لديه هو معرض تأويل وتداول كبير غير متناهٍ.
وبالتالي فإن عوامل المواجهة لا تكمن في القدرة العسكرية أو الحنكة السياسية فهي لا تعدو كونها وسائل تعطيل أو تجميد مؤقتة لأسباب الصراع مفعولها كمفعول العقاقير المسكنة للألم فهي لم تقارب السبب بل تعاملت مع النتائج التي تجلت في مظاهر هذا الصراع المختلفة، فالمواجهة تكمن في ذهنية تعي تركيبة أدوات الصراع وتعمل على تفكيكها بالتوازي مع المواجهة العسكرية والسياسية، وفي ظل قصور حالة الوعي الجمعي وعدم اقترانها إن وجدت نسبياً بفعل يرتقى لمستواها، يبقى الصراع دائراً ولا يتوقف ولو سكن لفترة من الزمن نتيجة عدم تحقيق أهدافه كما يجب، لذلك فإن الصراع يتجدد بأشكال ومسميات مختلفة لكنه لم ولن يتوقف يوماً، فالإنسان لم يرتقِ لإدراك قوة إنسانيته فهو تارة يسخر نفسه وقوداً لهذه الصراعات دون أن يدرك موقعه فيها ومنفعته منها ، وطوراً يعتريه الخوف والتخاذل فيقصر في المواجهة وبالتالي يستطيل الصراع على حساب وجوده .
إن مواجهة صراعنا الدائر اليوم يجب أن تركز على تفكيك أدوات الصراع وفي مقدمها العامل الديني الذي يحتاج إلى مراجعة كبيرة للموروث الحالي وتحديد موقف منطقي وموضوعي منه وهذا الأمر مطلوب رغم صعوبته البالغة نتيجة غياب مؤسسة دينية قادرة على القيام بهذا الأمر ، فمن يتجرأ اليوم أن يطرح ضرورة مراجعة المعطى الديني وتنقية محتواه ؟ ومن هو المؤهل فعلاً للقيام بذلك بعد 1500 من الصراع المذهبي ؟ وهل يستعد أصحاب العمائم التخلي عن سلطة يمسكون بها نتيجة حكمهم العقل الجمعي بغيبيات إلهية ؟ وهل تتيح قوة السياسة التي استخدمت العامل الديني لتحقيق أهدافها لأحد أن يقوم بذلك دون أن تطيح به بأوامر ربانية مزعومة تجيش معها الشعوب المسلوبة العقل المؤمنة بأن العدالة الإلهية لن تتحقق إلا بقتل كل ثائر على الثابت الغيبي ولو كان الجوع والجهل يغرقان هذه الشعوب برمتها، فالمهم هو رضى ممثلي الرب في الأرض ليرضى، فالعدل الإلهي لا يعرف طريقاً للتحقق بأسباب التنمية والتقدم بل بالقتل وتصفية الآخر !! والعامل الآخر الواجب تفكيكه هو الضعف الذي يعترينا نتيجة غياب مشروع نهضوي خاص بنا وبالتالي وجوب السعي لتكريس حالة إجماع من خلال مستوى جديد من التعبئة الأيديولوجية المرتبطة بمشروع واقعي، ولعل مشروع المقاومة هو أقرب مثال على ذلك رغم عدم تبلوره بالشكل المطلوب حتى الآن نتيجة كل ما سبق ذكره من أسباب وأدوات صراع .
فغياب الأيديولوجية الحاملة للمشروع الوطني تفقد هذا المشروع رافعته الجماهيرية وتبقى مقاربة الناس له حالة عاطفية وجدانية مجردة من دوافع العمل الدؤوب لتحقيقه كما هي الأمثلة الكثيرة اليوم لمقاربة كثيرين لواقع الصراع ، حيث نجد كثر ممن يتبنون موقفاً منه لكن دون فعل حقيقي يؤثر في مجرى هذا الصراع ، فالجميع يدرك أنه جزء من المعركة الحاصلة من حيث موقعه كهدف لأدوات الصراع لكن دون أن يكون جزءاً حقيقياً وفاعلاً من المواجهة ، فنرى ظواهر صوتية كثيرة وأفعال قليلة، فالصراعات الكبرى محك للشعوب بكليتها وليس لفئات ناهضة فيها فحسب، وبقدر ما يكون الفعل يعكس انخراط الجمع في الفعل بقدر ما تكون النتائج أكثر فاعلية وسرعة في التأثير.
فجيل الشباب لم يعد منذ سنوات عدة يملك انتماءاً لأيديولوجية محددة فهو ضائع بين التطرف الديني والإلحاد ولم يتحرك خارج دائرة الدين كمعطى أيديولوجي يفكر به ويحدد موقفه منه ، أما من تبقى ممن لا ينتمون لأحد الاتجاهين فهم على الأكثر مراقبون لتجاذبات الطرفين وحتى في حالة وعيهم للواقع فهم لا يملكون مشروعاً يقودونه ويعملون عليه، وبالتالي أمسى شبابنا للأسف في موقع رد الفعل دون الفعل في هذا الصراع ، فكل ما رأيناه من ومضات في الفعل لم تكن في الواقع أكثر من ردود فعل منفصلة عن كيانها الجمعي لذلك رغم أهميتها بقي تأثيرها محدوداً وغير فاعل بالشكل المطلوب في مجرى الصراع الكلي .فلم نلمس حواضن لحالات الوعي المتقدمة الموجودة لدى البعض فكانت أشبه بحالات اغتراب في محيطها كشفت عن نفسها عندما باتت قضيتها على المحك فوضعت وعيها في موضع الممارسة الفدائية حيث أنها تدرك أنها غير مدعومة ببيئة أيديولوجية مماثلة في وسطها في أغلب الأحيان ، فربطت نفسها بالعنوان الوطني العام وأمست في دائرة الخطر والاستهداف وبالتالي أصبح العنوان الوطني ذاته مهدداً إن لم يكن هناك استدراك من الحاضن الاجتماعي وارتقاء في مستوى الوعي الجمعي لطبيعة المرحلة واقترانه بفعل ينسجم معه.
فالمشروع الوطني مطلوب بإلحاح في هذه المرحلة، ومطلوب أكثر وجود بيئة اجتماعية حاضنة له تتجاوز كل مفرزات الصراع على مستوى مفاهيم المعارضة السياسية التي هي فعل تقويمي تراكمي للمشروع الوطني دون السلطة التي تدير هذا المشروع بذاتها ؛ لا متراس مواجهة للآخر في الوطن وتحويله إلى ساحة تصفية حسابات حزبية داخلية أو سياسية خارجية، فماذا يؤمل من طاولات حوار دون وجود أيديولوجية وطنية موحدة ودون وجود إجماع على هذه الأيديولوجية ومفرداتها ؟ وما هو المتوقع في المرحلة القادمة دون وجود بيئة حاضنة لمشروع وطني جامع قادرة على لملمة شتاتها من خلال وعي عميق ؟؟ فعن أي وعي نتحدث في ظل غياب العقل وارتباطه بالغيبيات ؟ وعن أي إجماع في ظل غياب إدراك قيمة الإجماع الوطني ؟
المشروع الوطني يجب أن ينطلق وفق أولويات يقرأ من يعمل على تحديدها المرحلة جيداً ولا يسعى لتسجيل نقاط على حساب الآخر ، وعلى كل فرد أن يدرك ذلك من موقعه ويلتزم بالأولويات العامة لا الخاصة التي يمكن تلخيصها بالتخلص من الإرهاب أولاً وتحديد مسمياته وثانيا ً عدم القبول أو التنازل عن المعايير الوطنية الحاسمة تحت عناوين المرونة السياسية أو احتمالات التغير التلقائي في المواقف بعد انتهاء الصراع بمعناه العسكري ، فداعمو الإرهاب لا يمكن أن يدعموا مشروعاً وطنياً أو أن يكونوا جزءاً منه ، والإقصاء لحالات الضعف هذه ليس إلغاء للآخر بل تنقية للبيئة الحاضنة المطلوبة للمشروع الوطني، وهنا لا ينفع التساهل مهما كانت دوافعه، فمفرزات الحرب كبيرة ومتطلبات النهوض تتطلب الحزم والحسم لتوفير بنية قوية متماسكة تلفظ عوامل الضعف الكامنة فيها. وتعيد تموضع مكوناتها وفق معايير الجدوى والفاعلية، فاليد العليا هي لليد المنتجة، والموقع المتقدم هو للعقل الواعي المتحرر من رواسب الموروث الديني والاجتماعي، المتمتع بانفتاح واسع بحجم طموحات المستقبل .
فالشباب هم الطاقة الكامنة والحركية المطلوب التوجه إليها، مع تسليحها بإيديولوجية انتمائية صادقة تستوعب عقولهم وإمكاناتهم وتستطيع توظيفها في خدمة المشروع الوطني الجامع، أما من سيضع نفسه خارج هذا المشروع لن يكون مستحقاً للاستفادة من مخرجاته التي يجب تحديد أوجه الاستفادة منه وفق فاعلية المشاركين في توفير مدخلاته كبيئة حاضنة داعمة أو أدوات فعل وتأثير في حجم إنتاجيته.
وبكل الأحوال ربما سنحتاج إلى عقود طويلة قادمة لتحقيق مشروعنا المنشود شريطة البدء بالعمل الدؤوب الواعي والحازم في وضع معايير مفاهيم الانتماء الوطني، ووطننا كمرتسم لإنسانيتنا لا يمكن أن تتجسد إلا عبره ومن خلاله يستحق حقاً كل الوعي والتحدي والعمل.
التاريخ - 2016-01-28 12:54 PM المشاهدات 993
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا