في لحظات القرب من الذات تبدو الأشياء أقرب مما قد نراها في الأحوال العادية، وبالتالي تغدو فرصة المعرفة أكبر ويكون الموقف أكثر واقعية .. هناك حيث تكون الحقائق متحررة عن كل ما يشوبها من رواسب الذات والواقع.وفي تلك اللحظات فقط يصبح بمقدورنا معرفة الوطن عن قرب، فالوطن هو الحقيقة الساطعة التي نراها جميعاً لكن كل منا يشعر به بطريقته ، وحسب زاوية رؤيته ، وتبعاً لدرجة قربه أو بعده عن ذاته أولاً وللمسافة التي تفصله عن الاعتراف بمكنوناته ثانياً .. وعلى سلم التأمل يرتقي المرء أكثر ليصبح ووطنه صنوان متلازمان بل كينونة واحدة جسداً وروحاً ، فلا يتألم الوطن إلا من عقوق أبنائه ولا ينزف سوى من دمائهم ، ومهما تعاقب عليه الغزاة فإنه يتصدى لهم بصدور أبنائه أيضاً فيشمخ مزهواً بهم؛ ويزهر كبريائهم بعزته.فالوطن مثلنا تماماً يشعر ويحزن ويفرح .. لكنه أكثر أصراراً وعزيمة منا وأكبر منا جميعاً .. هو الأكبر في كل شيء .. في التحمل والصبر على الجراح .. في المسامحة والعفو عن الخطأة .. في العلو عن السفاسف والصغائر .. في ماضيه وحاضره ومستقبله .. حتى في أحلامه كبير ليستوعبنا جميعاً وينتظر منا أن نكون بمستوى أحلامه بنا .. شامخين نليق بقامته .. أشداء من صلب جبروته .. كباراً ننتمي لماضيه .. متجذرين في أرضه .. مورقين ياسميناً لمستقبله ..ووطننا بقدر جماله وزهوه هدف للطامعين والحاقدين على الجمال والهوية ، أولئك شذاذ الآفاق ؛ لقطاء التاريخ الرامين لانتزاع هوية مغموسة بالدم ، فلا ماض لهم ولا حاضر سوى ما كتبته أياديهم وأجدادهم بالسيف والدم لا بأبجدية الحروف ولا بالعمارات الشاهقة المتآخية مع التاريخ ذاته .. ولذلك كله وطئوا أرضنا هنا وزرعوا فيها زرعاً فاسداً لم ولن ينتمي لتراب الأرض لكنه أقحم بالأرض إقحاماً مغلفاً بأوراق كتب عليها بضع آيات وأحاديث نسبت لله والله أعلم ! وقد استمرئ من أكل من ثمارها فسادها فأمسى دمه ملوثاً وبات كلما تنفس نفث سمومه في الأرجاء لينشر عدوى تلوثه في المحيط فيصاب بها كل من حوله إلا ترعرع وكبر على ثمار طيبة تنتمي لأرض الوطن المقدسة .هكذا فعلت الوهابية الحاقدة ببلداننا وأوطاننا تغلغلت في مجتمعاتنا باسم الدين الثري المملوء مالاً لتهدم القيم ، وتنسف زرعنا المعمر منذ آلف السنين بذريعة إرضاء الله والرسول وكذلك فعل مثيلها تنظيم الأخوان المسلمين القذر ، ليضع المصابين بفيروسه في وجه أولئك الأصحاء ؛ ليقتل بعضهم بعضاً فإن قتل المصاب لا ضير فهناك آخرون كثر بينما عندما يقتل الصحيح فليس مثله الكثير .. لنصل إلى مرحلة يتحول فيها المرض إلى شريعة يغصب الصحيح على اعتناقها وإلا بات خارجاً عنه ومتزندقاً بها .. هذه هي الحقيقة التي لا يريد البعض الاعتراف بها لأنه بات وجهاً لوجه أمام تحدي مع ذاته ومع واقعه المليء بالأمراض .. فهاهي شعوبنا ترزح تحت نير التعريف وإعادة التعريف لإسلامها رغم مرور حوالي ألف وخمسمائة عام على وجود النبي محمد .. متأرجحة في معاييرها العائمة على فقه الحديث والقرآن المتوارث .. عابثة في ظواهر تعتريها منشغلة في تحليل نتائجها دون معرفة أسبابها ولذلك بقيت تراوح في ضياعها دون خطوة واحدة إلى الأمام .وكل ما حدث ويحدث اليوم في وطننا الحبيب سورية هو إسقاط لما سبق وترجمة واقعية لتلك الحقب المتعاقبة من الزرع الفاسد الذي أقحم في أرضنا .. وحلب اليوم كما اخواتها في الجغرافية السورية تجسد إحدى نتائج فعل الوهابية الحاقدة والأخوانية المجرمة ، وبكل موضوعية تبتعد عن التشخيص ولا تغرق في التوصيف ولا تجتهد في التعريف فإن الخلاص يكمن في حمل معاولنا واقتلاع كل جذور ذاك الزرع الفاسد من وجداننا وعقولنا ، والإمساك بمباضعنا وتهيئة ذاتنا لعملية جراحية لاجتثاث ورم الوهابية الخبيث من جسد الوطن واجتثاث كل ملوث الدم من هذه الأرض ببندقية تنتمي لزمن النضال وقيمه النبيلة ؛ ولا يكون ذلك من خلال الغوص حيث يريدوننا أن نغوص في بحر الفتاوى اللامتناهي ولا في نفق الفقه والفقه المضاد لأن الورم بات كبيراً والخطر داهم على حياتنا فضلاً عن أن الوقت ليس في حال وفرة .. فليس هناك ما يمكن انتظاره من مدعي علم ولا عمامة لا تغطي سوى رأس مرتديها ولا أشباه متدينين لا يعرفون كيف يسوقون بضاعتهم الفاسدة ولو بأرخص الوسائل .. بل يكون بإعلاء شأن العقل والابتعاد عن الجدل في الغيبيات لحين استعادة العافية والنهوض مجدداً فحينذاك ربما نعود لتنقية الشريعة من رواسبها أو ربما لا نجد لذلك داعٍ فمن امتلك عقله عرف دينه واهتدى إلى الله. ويصبح العلم هو الدين الحق والبوابة لمعرفة الذات والله وليس اتباع طقوس أقرب ما تكون للوثنية المطلقة ..أسئلة كبرى نحتاج الإجابة عليها قبل الخوض في المواجهة كي نحدد البوصلة أولاً بوصلتنا نحن ؛ كي نعرف أين نقف وبأي اتجاه نسير وما يتوجب علينا فعله حقاً .. فالدعاء لا يوجب القعود عن العمل ، والعمل لا يتم دون امتلاك الوعي ، والوعي لا قيمة له دون امتلاك الأداة الفاعلة للتغيير .. وفي النهاية لا يمكن الانتصار الحقيقي أن يتم دون ذلك وإلا ستكون مجرد نهاية جولة تتبعها جولات ربما تكون اشد ضراوة وشراسة ، فالانتصار يكون على ذاتنا أولاً وتحريرها من عوالقها ويكون ثانياً في اعتماد العلمية لا اعتناق الغيبية ، وأخيراً في امتلاك الإرادة للنهوض حقاً والمباشرة بالعمل الجاد فإما نكون أو نكون .. ولا بد أن نكون؛ ولن تكون السعودية الوهابية ولا تركيا الأخوانية ولن يكون ما يخدر العقول باسم الدين أو غيره وسيكون فقط ما نملكه حقاً وهو قرارنا المعمد بدماء شهدائنا ولأجلهم وحدهم علينا ان نثور بحق وننعتق من قيود العبودية لذاك الجزء المتعفن من موروثنا ، ولتكن حرب التحرير الكبرى التي من أجلها قدمنا كل تلك القوافل من الشهداء قرابين عزة وانتصار حقيقي لا وهمي ، ولنحاصر حصارنا المفروض علينا ونعلي جدار الحقد بيننا وبين أعدائنا جميعهم في الداخل والخارج ولنبطش بهم بحق وطننا وشهداء وطننا وقامات السنديان المتناثرين كالكواكب في مجرة الإنسانية ، ولك من بقى من أطفالنا الحالمين كحلم الوطن بغد يليق بهم . سورية الحدث - عفيف دلا
التاريخ - 2016-05-03 3:24 PM المشاهدات 598
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا