كان للموت طقوس مقدسة في مدينة الرقة، فالميت يُحتفى به، ويُقام له عزاء يتناقل الناس أخباره، سبعة أيام بلياليها ولا ينقطع الأهل عن زيارة قبر فقيدهم طيلة عام كامل، كان ذلك إلى فترة قريبة، ثم أقرت عشائر الرقة تخفيض عدد أيام العزاء نظراً لضيق حال الناس، وتواتر سنوات الجفاف، فصارت ثلاثة أيام بلياليها تترافق بنحر الأغنام وتقديم الطعام للمعزين.انتهت كل تلك الطقوس الجنائزية، وصارت ذكريات يتداولها الناس، إذ منع تنظيم "داعش" أهل الرقة منذ سنوات من الاحتفاء بموتاهم، سواء كانوا قد قضوا بوفاة طبيعية أو بقصف ناري، وليس للمدنيين حول ولا قوة، وما كان منهم سوى الرضوخ تحت تهديد السلاح لأوامر مسلحي التنظيم.لم تعد هناك جنازات، وبيوت عزاء، ومن يمت يُدفن بصمت، فمظاهر التجمعات غير مرغوبة بالنسبة للتنظيم، فقد يجذب ذلك طائرة حربية تستهدف تلك التجمعات.الدفن الممنوع!قام مسلحو الكتائب الإسلامية وجبهة "النصرة" بالتمثيل بجثث شهداء الجيش السوري عندما استولوا على الرقة عام 2013، كان هناك عدد من الجثث في الشوارع والساحات العامة، يقومون بنقلها من مكان إلى آخر لكي يرهبوا بها الناس، بعد أن بقيت الجثث لأيام في شوارع الرقة، قام بعض الأشخاص بحمل الجثث من الشوارع والساحات العامة وقاموا بدفنها في أماكن مختلفة من الرقة، منها 12 جثة في مقبرة تل البيعة، إضافة إلى جثث في بستان الزيتون جانب مبنى مديرية الزراعة الجديد غرب حديقة البانوراما، ودفنوا الجثث بعد أن صوروها لتوثيق أصحابها رغم المخاطرة الكبيرة. يقول الرجل الأربعيني أبو حسام: إكرام الميت دفنه، لم يكن بوسعنا حماية المجندين الأبرياء من هؤلاء الوحوش، إلّا أننا قمنا بأداء واجبنا تجاه جثثهم وقمنا بدفنها بشكل سري، لأن في ذلك مخاطرة كبيرة، يوماً ما سيأتي من يبحث عنهم وإن مدَّ الله بعمرنا سندل أهاليهم على قبورهم من خلال صورهم.موتى بلا جثثبدأت مأساة جديدة في الرقة مع سيطرة تنظيم "داعش" على الرقة بداية عام 2014، ولم يكتفِ التنظيم بمنع الناس من دفن موتاهم كما يليق بهم وإقامة طقوس جنائزية كما اعتادوا ومنع عليهم حتى البناء فوق القبور، أو إقامة عزاء، إنما صار يحتفظ بالجثث منذ أول عملية إعدام نفذها التنظيم في ساحة الجلاء وسط المدينة بحق ثلاثة شبان، من دون أن يسلم جُثثهم لأهاليهم، أو يُخبرهم عن مكان دفنهم، هذا في حال تم دفنهم أساساً. اعتقل التنظيم الآلاف من أبناء الرقة، ولم يُفرج عنهم أو يُعرف مصيرهم، أما من قضوا منهم في المعتقلات تحت التعذيب، أو بالإعدامات الميدانية فاكتفى التنظيم بإخبار أهاليهم في حالات نادرة أنهم ماتوا، وبعد وساطات كثيرة يمكن أن يروا الجثة في حال حالفهم الحظ. يقول محمد: اعتقلوا والدي وبعد أسبوع من اعتقاله أبلغونا بوفاته، وحاولنا بوساطات عشائرية أن نأخذ جثمانه، إلّا أنهم رفضوا ذلك لكنهم سمحوا لنا برؤيته في براد المشفى الوطني الذي كان مليئاً بالجثث، ولسنا ندري حتى اللحظة ما مصير جثته ولا نستطيع حتى السؤال عنها، فمجرد طرح هذا السؤال يُعرض السائل للاعتقال والقتل في بعض الحالات.لا طريق إلى المقبرةمقبرة تل البيعة هي المقبرة الجامعة لكل موتى مدينة الرقة، تقع شمالي شرق المدينة، إلّا أن الطرقات المؤدية إليها مقطوعة بالكامل بعد أن سيطرت عليها قوات "قسد" التي تخوض معركة السيطرة على الرقة ضد تنظيم "داعش". يستمر القصف على المدينة بكل أشكاله، فالطائرات الحربية لا تغادر سماء الرقة بمعدل غارات يومي ما بين 10 - 25 غارة جوية إضافة إلى القصف المدفعي العشوائي الذي طال كل أحياء المدينة ودمر أسواقها بشكل كامل. لا يأبه أحد بمصير حوالي 75 ألف مدني محاصرين داخل أحياء المدينة، يعتمدون في مأكلهم ومشرهم على ما خزنوه من طعام قبل بداية المعركة لأنهم قرروا مسبقاً أنهم لن يغادروا بيوتهم، يتعرض المدنيون كل يوم إلى القذائف والرصاص العشوائي وقد تدمرت بنايات كثيرة فوق رؤوس ساكنيها الذين ما زالوا تحت الأنقاض ولا يُعرف عنهم شيئاً حتى اللحظة. يقضي كل يوم ما بين 20 إلى 30 مدنياً على الأقل نتيجة القصف المستمر، والتفجيرات والخوف وقلة الأدوية، فالوضع الصحي في المدينة لايُبشر بخير مع خروج معظم المشافي الخاصة عن الخدمة، وقلة عدد الأطباء الذين قضى بعضهم بالقصف فمنذ أيام استشهد ثلاثة أطباء من أبناء الرقة، هم قيس السيد أحمد وفؤاد العجيلي وإبراهيم الشواخ، وهم من الأطباء القلائل الذين أصروا على البقاء في الرقة من أجل القيام بواجبهم الإنساني تجاه المدنيين المحاصرين.يقول أحد الأطباء الخارجين من الرقة منذ أيام، وقد رفض الكشف عن اسمه: بقينا في الرقة ما أمكن لمساعدة أهلنا هناك، الحقيقة الوضع مأساوي جداً، ولا يُمكن وصفه، فلا يكفي المدنيين قلة الأدوية والأطباء والأجهزة الطبية، إنما ليس بوسعنا التحرك والوصول إلى جميع الجرحى والمرضى.وأضاف: الوضع الصحي في الرقة يحتاج إلى تدخل سريع من أجل إنقاذ المدنيين المحاصرين الذين يعانون كل أشكال العذابات والويلات.جثث في الشوارعتُعتبر عبارة "الجثث في الشوارع" جملة تُستخدم كناية عن كثرة الموت، إلّا إنها في الرقة حقيقة وليست تعبيراً مجازياً، عشرات الجثث في مناطق الاشتباكات في المدينة لا يستطيع أحد الوصول إليها، إنما تتحلل في مكانها أو تصبح طعاماً للكلاب الشاردة.انفجرت ألغام كثيرة على عائلات مدنية أثناء خروجها من المدينة، وتناثرت أشلاء البعض بينما نجا آخرون، هناك عائلات قضى منها الأب والأم وبقي الأطفال فقط، خلال محاولات الخروج من المدينة لا يمكنك النظر خلفك إن أنت سمعت صوت انفجار. صار المدنيون يدفنون الجثث التي بمتناول أيديهم في الحدائق والشوارع والمساجد والبيوت في حال كانت بيوتاً عربية.يقول خليل الجاسم: يتم الدفن من دون أي مراعاة لأصول عمليات دفن الموتى إنما تُحفر الحفر، وتُلقى فيها الجثث بعد لفها ببطانيات وحرامات وردم التراب فوقها، فلا وقت لطقوس الدفن والمهم حماية الجثث من الكلاب الشاردة، وبعض الجثث تفسخت في مكانها ولم يستطع أحد الوصول إليها.إن معاناة مدينة الرقة مستمرة للشهر الثاني على التوالي، وكلما تقدمت قوات "قسد" باتجاه وسط المدينة كلما اشتدت وتيرة المعارك وتضاعف عدد الضحايا، آلاف العائلات تقطن في الملاجئ وأقبية البنايات من دون أن يعلم بوجودها أحد، وبنايات كثيرة هُدمت فوق رؤوس ساكنيها ولا يستطيع أحد الوصول إليهم أو حتى يعرف بوجودهم، إذاً نحن أمام جميع أسباب الموت، ولا سبيل يفضي لحياة كريمة في مدينة سبق أن دمرتها جحافل المغول وجعلوها خراباً وها هو التاريخ يعيد نفسه مجدداً بيد الأمريكيين.فراس الهكار
التاريخ - 2017-08-23 2:45 PM المشاهدات 930
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا