استطاعت الحرب في سورية منذ يومها الأول، أن تضع السوريين في أجواء مضطربة، وأن تغير طريقة تفكيرهم عبر وسائل لم تعد خافية على أحد، ذلك أن الحرب على الأرض سارت بالتوازي مع حرب على الأخلاق وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، و هي حرب أخلاقية بالدرجة الأولى، حرب على المعنى في زمن العناوين العريضة، وحرب على القيم النبيلة والثقافة الإنسانية، فالانحدار الأخلاقي هو نتاج متصل للانحدار في الزراعة والصناعة والتعليم والثقافة في سورية خلال الحرب. مغتصب بناته… حقيقيقد يشعر البعض بالصدمة عندما يسمع قصة الأب الذي اغتصب بناته الأربعة، وأنجب طفلا من إحداهن وقتل ثلاثة منهن في بلدة البحارية بالغوطة الشرقية، ويتساءل هل فعلا حصل ذلك في سورية؟! في الواقع يحصل ذلك في سورية ضمن سياق الآثار المدمرة للحرب، وما يظهر على السطح ما هو إلا رأس جبل الجليد من تلك الآثار، التي تشير إلى حدوث نوع من الخلل، وعدم التوازن بين عناصر النظام الاجتماعي، وما يحتويه من علاقات إنسانية وقيم أخلاقية راسخة ومتأصلة. فالأزمات تدمّر المنظومة الأخلاقية والقيمية لدى أبناء المجتمع، أما قصة مغتصب بناته فيعرفها جيدا عناصر قسم شرطة برزة، الذين حققوا مع المجرم وأحالوه إلى القضاء منذ العام الماضي، بعد أن اشتكت عليه ابنته الصغرى التي كانت تعمل في بيع الخبز في منطقة مساكن برزة، كما تعرف القصة جيدا المنظمة الإنسانية التي تبنت الطفل الوليد وطلبت عدم خروج الحادثة إلى وسائل الإعلام، ويعرفها بعض الصحفيين ومنهم مراسلو «الأيام» الذين امتنعوا عن نشر الخبر، منذ الصيف الماضي، حفاظا على الخصوصية الاجتماعية للحادثة والتزاماً بالقواعد المهنية والمسؤولية الإنسانية.حوالات مالية من العراق! العديد من الشبان والفتيات ابتكروا وسائل جديدة في السقوط الأخلاقي إذ لا يمكن القول «أبدعوا» في السقوط توازيا مع سقوط الأخلاق، إحدى الفتيات «ج .ل» تسكن مدينة جرمانا وتقوم بمواعدة شاب عراقي بعد أن تعرفت به عبر «الفيسبوك»، ثم اتفقت معه على الزواج بعد فترة من التواصل معتمدة على أسلوبها «المقنع»، ثم طلبت منه حوالات مالية من أجل شراء تجهيزات الزواج وعندما اكتملت التجهيزات اختفت العروس من قائمة أصدقاء العريس، واختفت تجهيزات العرس بعد أن قامت العروس بحظره من قائمة أصدقائها ثم قامت بمواعدة شاب عراقي آخر عن طريق أصدقاء مشتركين، وأعادت السيناريو نفسه بهدف الحصول على الأموال قبل أن تواعد شاباً عائداً من الولايات المتحدة ويبحث عن عروس «بيضا شقرا» من دمشق وأيضا وافقت على الزواج به بشرط تسجيل بيته في حي «القصاع» باسمها، إلا أنه شعر بالمقلب قبل أن تقع «الفاس بالراس» وشمّع الخيط مسرعا إلى «لوس أنجلس»، وتقول الفتاة «ل.خ» لجريدة «الأيام» إنها قبل أن تقوم بهذه الأساليب كانت «ضحية عائلة قاسية ومجتمع ظالم وزوج سيئ» وتضيف: «انفصلت عن زوجي منذ 4 سنوات ولم ترحمني متطلبات الحياة وظروف الحرب وغلاء المعيشة وجربت العمل في الكثير من المهن والأعمال التي لا تسد الرمق، وتعرضت للكثير من المواقف المؤلمة حتى وصل بي الأمر إلى الإيقاع بالشباب ولكن (برضاهم وموافقتهم)، فأنا لا أفرض على الشاب أن يرسل المال بل هو يندفع نحو العلاقة وأنا أوافق فقط للحصول على الحوالات المالية التي تنقذني من الجوع مع طفلي».«شاذون» جنسياً تحت الطلبفي الوقت الذي تمارس فيه هذه الفتاة أساليب غير أخلاقيه للحصول على المال فإن شبانا آخرين يقومون بأساليب أكثر شذوذاً للحصول على المال، حيث يقوم شاب جامعي ومتعلم (س.ر) بمواعدة الشبان والميسورين بهدف إقامة علاقات شاذة مقابل مبالغ مالية، ويختلف الأجر بحسب الحالة المادية والاجتماعية للطرف الآخر، ويقول (س.ر) إنه اضطر للقيام بهذه الأعمال بسبب الحاجة المادية قبل أن يسافر إلى ألمانيا ويتحول إلى لاجئ، يعيش شذوذه الجنسي بحرية تامة ضمن القوانين الأوروبية، لكنه يؤكد أن الشاذين السوريين يدفعون أكثر بسبب الكبت والسرية وأيضا لأنه مطلوب بسبب «جماله» على حد تعبيره.تطرف حتى في التطرفمع غياب الوسطية وانتشار التطرف في مختلف جوانب الحياة، هناك مفارقات كبيرة يمكن رؤيتها في المجتمع السوري اليوم، بين الأشخاص الذين أصابتهم «الردة الدينية» فعادوا إلى عادات أسلافهم والتزموا طريقة تفكيرهم وحياتهم، وبين أشخاص تخلصوا من كل القيم الأخلاقية كردة فعل على ما تعرضوا له أو مروا به. (ع.ن) فتاة عمرها ٢٥ عاماً تعيش حياتها من دون أي رقابة عائلية أو ذاتيه بعد أن انفصلت عن أهلها، وهي تظن أن كل شيء مباح في سبيل راحة الإنسان وسعادته، حيث تعتبر الوصول إلى الشهرة والمال عبر جسدها أمر مبرر وأخلاقي، على المبدأ المكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلة»، لكنها في نفس الوقت لا تعرف شيئا عن مصطلح تسليع المرأة، ولا تشعر بشكل من الأشكال أنها تسيئ إلى نفسها وجسدها بهذا الأسلوب من الحياة. ورغم إيمانها بالحب ومرورها بتجربة عاطفيه في أيامٍ سابقة إلا أنها تقول عنه اليوم «الحب راحت أيامو واللي بيحبك اليوم بهدف يوصل لغاية منك، ولازم يدفع مقابل الغاية» وهكذا فإن الظروف التي واجهتها هذه الفتاة وربما حالها حال الكثيرات، دفعتها لاعتبار نفسها وسيلة للجنس فقط، وعن طريقه يمكنها تحقيق ذاتها وإثبات شخصيتها التي ستفقدها لاحقاً، عندما يغيب حضورها الجسدي بعد أن غاب حضورها الأخلاقي والمعرفي.غياب الرقابة الأمنية والقانونيةتجاوزت ظاهرة الطلاق في سورية أرقاماً غير مسبوقة ووصلت لنسبة تفوق 50%، بحسب ما أكد نقيب أطباء سورية نزار اسكيف، في تصريح سابق وهي نسبة مخيفة لما لها من أبعاد اقتصادية واجتماعية خطيرة، وأمام هذا الخلل الاجتماعي الناتج عن الحرب، يقول الأخصائي النفسي والتربوي لدى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، حسام سليمان الشحاذه: إن تراجع بعض المعايير الأخلاقية والقيمية بين أبناء المجتمع ليس وليد الساعة، وكان له وجوده قبل الأزمة السورية، ولكنه كان في حدوده الدنيا، حتى أن نسب الجرائم، والعنف، وجنوح الأحداث، وتعاطي المخدرات، وتعنيف المرأة، وأطفال الشوارع، والأمية، وتشغيل الأحداث… كانت في أقل نسبها بالمقارنة مع الدول المجاورة، أو بالمقارنة مع الدول المتقدمة».ويؤكد الشحاذة لـ «الأيام» أن ارتفاع نسب الجريمة والعنف في سورية خلال الحرب، يعود إلى مجموعة أسباب يمكن ترتيبها حسب أهميتها النسبية في انتشار العنف والجريمة؛ حيث يأتي انتشار الأمية بين الأطفال، والمراهقين، والشباب والبالغين، في المرتبة الأولى، ولاسيما في المناطق التي خرجت عن سيطرة الدولة خلال سنوات الحرب الماضية على سورية، وهو العامل الأهم في انتشار الانفلات الأخلاقي والجريمة والعنف، فقد بينت الدراسات أن التجمعات البشرية التي تنتشر فيها نسب مرتفعة للأمية لوحظ فيها نسب مرتفعة من الظواهر الاجتماعية السلبية، وتحديدا العنف والجريمة.ويعدد الشحاذة أسباب الانحدار القيمي والأخلاقي ومنها: «غياب الوعي الجمعي بين المواطنين في المناطق الريفية النائية، وغياب دور الإعلام المحلي في بيان مخاطر العنف والجريمة بين أفراد المجتمع، وغياب الثقافة القانونية بين أفراد المجتمع، والتي يجب أن يضطلع الإعلام المحلي بدور كبير فيها، إضافة إلى انتشار الفقر والعوز الاجتماعي، فقد بينت الدراسات أن العنف والجريمة تنتشر في المجتمعات الفقيرة والتجمعات السكنية العشوائية».ويشدد الأخصائي النفسي والتربوي في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل على «غياب الرقابة الأمنية وانتشار الفوضى، ولا سيما في المناطق التي خرجت مؤقتاً عن سيطرة الدولة خلال سنوات الأزمة السورية، وانتشار البطالة بين فئة الشباب وانتشار الفكر المتطرف، وغياب معايير الاعتدال والوسطية في الممارسة الفكرية والدينية والسلوكية تجاه الأقليات».أما حول دور الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي يقول الشحاذة: «حاول الإعلام المعادي والمُغرض إعادة بناء الهيكلية الفكرية والمعرفية لذهنية الفرد بشكل سلبي، وتوظيفها لهدم بعض المعايير الأخلاقية، والمفاهيم الاجتماعية المرتبطة بالممارسات اليومية، لا سيما تلك الممارسات السلوكية المرتبطة بالمواطنة، والشعور بالمسؤولية الشخصية والاجتماعية، وحب الأرض، ومساعدة الآخرين، وعلاقة الفرد بالدولة والمجتمع».متنفس للفساد الأخلاقيفي الجانب النفسي يرى الطبيب والاستشاري النفسي جمال دياب أن الحرب تخلق ظروفاً مناسبة لبعض أفراد المجتمع، لاتباع سلوكيات غير سليمة في التعامل مع الآخرين، والانحدار الأخلاقي قد يعود أيضا إلى عوامل نفسية وانفعالية، لأشخاص يعانون قبل الأزمات مشكلات وأعراض نفسية، و في ظل غياب المراقبة الاجتماعية والقانونية، يجدون المتنفس للتعبير عن دوافعهم غير الأخلاقية تجاه المجتمع، وتجاه أنفسهم، وهكذا يظنون أنهم يجنون الفوائد من وراء ذلك، إلا أنهم يعيشون حالة غير مستقرة نفسياً وأخلاقياً، لذلك يلجؤون إلى هذه السلوكيات للتعويض عن الشعور بالنقص في أنفسهم. وهذا كله بحسب الاستشاري النفسي دياب هو نتاج لمجموعة من الضغوط النفسية التي يعيشها هؤلاء الأشخاص في ظل الأزمة، حيث يستبدلون القيم الأخلاقية بقيم استهلاكية، ومنهم من يتخلى عن قيمه الأصلية ويلجأ إلى الانحراف للحصول على بعض المنافع الشخصية، لاستمرار حياتهم في ظل غياب مقومات الحياة الأساسية.ومن عوامل الفساد الأخلاقي كما يراها الأخصائي النفسي، انتشار القيم الثقافية الاستهلاكية الموجودة في دول الغرب والدول المستقرة، حيث يشعر البعض بالقيم المتناقضة بين ما هو موجود في مجتمعهم وما هو موجود في دول أخرى، لذلك يعيشون حالة من الاغتراب، واللاهدفية واللامعنى في حياتهم، ونتيجة ذلك تضطرب سلوكياتهم وأفكارهم وقيمهم، حيث يصبحون بلا قيمة في نظر مجتمعهم، ما يجعلهم يقومون بهذه السلوكيات لتأكيد مفهوم الذات السلبي لديهم.الحل طويلأمام هذا الواقع لا يبدو المستقبل مبشّراً، ذلك أن غياب القيم الأخلاقية سيستمر حتى بعد انتهاء الأزمة أو الحرب، وإعادة الشعور بالأمان وإشباع الحاجات الضرورية، كما يقول الاستشاري النفسي دياب، لأن الأخلاق ليست حاجة وقتية في حياة الإنسان، ولا يمكن الحد من هذه القيم الفاسدة، واستبدالها بقيم إيجابية بهذه السرعة، والتي تتم في ظل القانون وسلطة المجتمع، وحتى يتم ذلك لا بد من إعادة البناء النفسي إلى طبيعته الأساسية، من خلال استبدال تلك الأعراض والمشكلات النفسية باتجاهات أكثر توافقاً على المستوى الفردي والاجتماعي، أي إعادة البناء الفكري والسلوكي والأخلاقي عن طريق المعرفة والثقافة والمدرسة والمجتمع، والإرشاد والعلاج النفسي وغير ذلك من الأساليب التي تعيد ذلك الإنسان المقامر بحياته وحياة مجتمعه، إلى حضن المجتمع بطريقة إيجابية وإنسانية.
التاريخ - 2018-05-21 10:42 PM المشاهدات 1431
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا