لم يحدث أن تسببت جريمة شرف في سورية وفي مختلف البيئات التي حدثت فيها ولو «بخضّة» في الشارع السوري أو ردة فعل تجاوزت في تأثيراتها حدود القرية أو حائط السوشال ميديا، ولم يسبق أن تحولت جريمة إلى نقطة تحول في حياة المجتمع السوري الذي تغلّفه القوانين والأنظمة وتستوطنه عادات القبيلة، على العكس من ذلك، ما زال الناس يتّبعون في هذا الشأن سياسة النأي بالنفس، كذلك هو الحال بالنسبة للدولة السورية التي تتبع السياسة ذاتها تجاه مواطنيها منذ زمن. أعطت هذه السياسة وما زالت تعطي نتائج تُظهر مفارقات الدولة الفاقعة في تناقضاتها، مفارقات من نوع الدولة القوية في الظاهر ولكن الضعيفة والهشّة بذات الوقت من الداخل.إلى ما قبل الأزمة وخلالها وحتى الآن، تبدو الدولة قوية، تحتكر الاقتصاد ووسائل الإعلام ولديها جهاز بيروقراطي يتغلغل في كامل الحياة الاجتماعية، سلطاتها الأمنية تراقب كل شيء، وهذه سياسة نشأ عليها السوريون وهي مستمرة منذ عقود، لكن الدولة ذاتها وفي المقابل، تبدو عاجزة عن صياغة نظام أخلاقي وقيمي وقانوني يلتزم به السوريون الذين تتنازعهم هويات وانتماءات متعددة لعل آخرها الولاء للدولة. وعلى العكس مما يحدث هنا، لا تحتكر الدولة في أوروبا الاقتصاد ولا الإعلام وحقوق المواطن الأساسية مصانة، مع ذلك، فإن الدولة هناك أكثر حضوراً في تنظيم حياة مواطنيها ودفعهم بالاتجاه الذي ترغب، فهي تحيط بهم عبر أنظمة الرعاية والتقاعد والتأمين الصحي، وأي قانون تفرضه الدولة يؤثر مباشرة في حياة الناس على عكس القوانين السورية التي نادراً ما تترك أثراً سريعاً على الحياة. فالدولة هنا دولة قادرة على تحطيم أية مقاومة شعبية، لكنها عاجزة عن إقناع مواطنيها بالتوقف عن رمي النفايات في الشارع أو تغيير فكرة الشرف المقرون بالمرأة والعار الذي تجلبه أعضائها التناسلية.هذه التناقضات أحيتها قصة جريمة الشرف التي ذهبت ضحيتها مؤخراً الطفلة ديانا عماد أبو حسون (17 سنة) من قرية جرين بريف السويداء الغربي، ضحية جديدة من ضحايا التعصب الديني والعادات والتقاليد أضيفت إلى سابقاتها من بنات جيلها، والسؤال الذي أعاد طرح نفسه عقب هذه الجريمة: إذا كانت الدولة تنأى بنفسها عن التدخل في شؤون الطوائف وتقاليدها، فلماذا تنأى بنفسها عن التدخل في القوانين السورية وإعادة هيكلتها بما فيها قانون الأحوال الشخصية وقانون العقوبات؟!احتلت سورية في عام 2010 المرتبة الثالثة عربياً في جرائم الشرف بعد فلسطين واليمن وفقاً لوزارة الداخلية السورية عام 2011، والتي قالت وقتذاك، إن عدد جرائم الشرف في سورية بلغت (249) جريمة. لمح المشرّع السوري العادات التي ارتبطت بجريمة الشرف في سورية ووضع لها ضوابط تم تحديدها في سياقها، قبل ذلك، ضم قانون العقوبات السوري مواداً تعد (رخصة قتل) للمرأة عبر ما يسمى بالعذر المحل أو (فورة الدم) لمرتكب جريمة الشرف، قبل أن يتم تعديلها لاحقاً إلى الحبس من 5 سنوات إلى 7 سنوات، وهي عقوبة ما زالت بعد تعديلها قاصرة عن أن تكون عقوبة رادعة تحمي المرأة وتصون حياتها، فأين هو الخطأ؟ هل هو في المثقفين والعلمانيين العاجزين عن إحداث أي تغيير في ثقافة طوائفهم المتجذرة والمتأصلة؟ أم الخطأ في الناس التي تطيع أوامر القبيلة والكنيسة والجامع داخل الدولة؟ أم في الدولة المشغولة بعلمانيتها والتي تقبل أن تساوي نفسها بالكنيسة والجامع والقبيلة عندما تسمح لهذه المؤسسات الاجتماعية بأن تسلب القانون سلطته وعدالته؟ وعندما تسمح لقادة هذه المؤسسات بامتلاك السلطة داخل طوائفها ومن ثم السيطرة والتحكم بالسلوك الاجتماعي لأفرادها، مع أن العكس هو ما يجب أن يحصل، فمنح هؤلاء القادة سلطتهم داخل جماعاتهم سيعزز من استقلالية هؤلاء القادة عن الدولة في إدارة شؤون جماعتهم الخاصة، وهذا سيحد في النهاية من قدرة الدولة وسطوتها في تنظيم سلوك أفرادها الاجتماعي والتحكم به وهو الأساس الذي نشأت عليه.الحالة المثالية في المجتمع السوري تقول إن الجميع يسعى إلى تغيير القوانين التي تعيد الناس إلى حكم التقاليد والقبيلة، أما الواقع فيقول إن هناك تحالفاً دينياً سياسياً ما بين السلطة والدين يحول دون هذا التغيير، فحزب البعث العربي العلماني يقوم اليوم بمهمة واحدة هي شراء الجمهور، والجمهور الديني تحديداً! اتبع الحزب هذه السياسية منذ زمن، وازدادت هذه السياسة بعد الأزمة بعدما رأى الجميع الأثر الكارثي الذي أحدثه الدين متجسداً في أفراد المجموعات المتطرفة، فتجذرت أكثر لدى الدولة فكرة أنه من حق السياسي أن يشتري الديني. من أجل كل ما سبق، فإن العمل السياسي في سورية لن يكون قادراً على فعل شيء في مواجهة التعقيدات المجتمعية والدينية التي يعيشها المجتمع السوري، هنا تحديداً، يبدو واضحاً أن الدولة استسلمت أمام العادات والتقاليد ورفعت رايتها أمام حكم القادة لطوائفهم وإدارة شؤونها الخاصة على حساب القانون. أما الشعب السوري المُصرّ على أنه شعب عنيد، فمن الحكمة له أن يؤجل ثورته السياسية إلى حين إنجاز ثورته المجتمعية، فليس لشعبٍ أن يطالب بالحرية السياسية وإسقاط النظام وهو عبد لعاداته وتقاليده وعبد لماضيه، وقد بدا عجز هذا الشعب واضحاً عندما فشلت محاولاته الثورية، ولعل أحد أهم أسباب هذا الفشل هو غرق هذا الشعب كما شعوب المنطقة في شكلها القطيعي وانتماءاتها ما دون الوطنية. وهي الحالة التي اتّحدت فيها قوى الدين مع التقاليد، فلم يعد ممكناً الفصل بينهما، ولم يعد من الممكن إدراك أيهما المؤثر الأعمق، الدين أم التقاليد؟الأيام
التاريخ - 2018-10-09 9:20 PM المشاهدات 1430
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا