يستمرّ الجيش العربي السوري في عملياته العسكرية في ريف إدلب الجنوبي، مواصِلاً التقدّم نحو مدينة سراقب الاستراتيجية. المدينة، وفق المصادر الميدانية، ستكون محطّة بدورها نحو تقدّم إضافي. وما لم تحصل «مفاجأة» ما، أو تتوقف العمليات بفعل تداخلات سياسية، فإن معطيات الميدان تشي بحتمية تحقّق تلك التقديرات، خصوصاً أن بعض الخطوط الأمامية التي غادرناها يوم الجمعة ليلاً، باتت اليوم نقاطاً حصينة في عمق مناطق سيطرة الجيش، الذي واصل طريقه منطلقاً منها إلى ما بعدها، ليصل إلى مدخل مدينة سراقب الغربي.
«محافظة إدلب ترحّب بكم». لا تزال الشاخصة الحجرية الضخمة منتصبةً في مكانها. تخبرك ــــ على رغم امّحاء بعض حروفها ــــ بأنك تعبر الآن الحدود الإدارية بين محافظتَي حماة وإدلب. تنطلق السيارة بسرعة، على رغم وعورة الطريق في كثير من أجزائه. لا يعود ذلك إلى «نعمة الدفع الرباعي» فحسب، بل إلى مهارة السائق، وخبرته التي حصّلها عبر شهور طويلة من التنقّل بين الخطوط الخلفية ونظيرتها الأمامية. «كلّ مرة تغدو المسافة أطول، والطريق أصعب»، يقول مدارياً ملَله بضحكة طويلة. تمتلئ الدروب الوعرة بحكايات الحرب، وسط غياب أيّ ملمحٍ مدني. يسترعي انتباهنا تفصيلٌ أقلّ ما يقال عنه إنه «سوريالي»، دبّابةٌ مركونة على طرف الطريق، وقد فُرد فوقها غطاء من الجلد الصناعي، ممهورٌ بشعارات «مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجيئن / UNHCR».
سيناريو متكرّر
يبطّئ السائق قليلاً، ليتيح لنا ملاحظة بعض الشواهد على قصص يرويها من ذكريات الحملة العسكرية السابقة (آب 2019) التي أفضت إلى السيطرة على مدينة خان شيخون، ومهّدت الطريق تالياً نحو معرّة النعمان وتخوم سراقب .. يتتالى الشرح: «هذه القرية كانت سهلة، تلك لم نخض فيها قتالاً يُذكر، هذه عذّبتنا، تل سكيك كانت أنفاقه صعبة...». بعد ساعات من هذا الحديث، يسرد ضابط ميداني التفاصيل ذاتها لدى حديثه عن معارك اليوم، والتي تشهد تكراراً جليّاً للسيناريو نفسه. «السيطرة على بعض القرى تَطلّبت معارك عنيفة، وتعاملاً خاصاً مع المسلحين الذين استماتوا في القتال»، يقول الضابط. ويضيف: «ثمة قرى أخرى لم تشهد سوى اشتباكات طفيفة على مداخل المدن. يعود ذلك إلى طبيعة الفصائل التي نواجهها، واختلاف بناها الداخلية، وأيديولوجياتها». تتوقف السيارة على جانب الطريق، ليعلن أحد مرافقينا: «هذه مغارة خان شيخون»، مشيراً إلى سفح إحدى التلال. شَكّل اكتشاف المغارة أحد أهمّ تحدّيات معركة خان شيخون. بدا الموقع لفترة أشبه بـ«ثقب أسود» يبتلع كلّ محاولات الرصد والتتبّع. حتى طائرات الاستطلاع كانت تعجز عن كشفها، بفعل تشويش عالٍ قد يعود إلى قرب المغارة من إحدى نقاط المراقبة التركية. لاحقاً، سيطر الجيش على المنطقة بأكملها، لتُكشف المغارة التي كانت «مقرّاً عملياتياً متقدّماً عالي التجهيز»، وتتحوّل إلى جزء من أرشيف الحرب، شأنها شأن النقطة التركية. يمتدّ مسارنا على ميمنة الطريق الدولي «M5»، في الريف الجنوبي الشرقي لإدلب.
نحو الخطوط الأمامية
بعد استراحة قصيرة في سنجار، نستقلّ سيارة أخرى، ونمضي نحو الخطوط الأمامية. تختفي مجدّداً المظاهر المدنية بعد أن طالعنا قليلاً منها في سنجار. باستثناء الخضرة الشاسعة على جانبَي الطريق، وبعض السيارات العابرة، لا شيء هنا سوى الوحشة التي تخلّفها الحرب. تتفاوت مظاهر الدمار تبعاً لطبيعة المعارك التي دارت في القرى والبلدات. بعضها لا تلمح فيه أثراً لطلقة، وبعضها يهيمن الخراب على شوارعه. وعلى امتداد المسافة نحو معصران، يشير مرافقونا إلى سلاسل من الخنادق تكاد لا تنتهي. نعبر بلدة متوسطة، فكفريا. يشير أحد مرافقينا إلى نقطة المراقبة التركية في صرمان، والتي تحوّلت إلى واحدة من النقاط المعزولة بلا عمل يُذكر. نتجاوزها نحو الصقيعة، فالمنطار، ثم الحراكي، وعجاز، فأبو دفنة. يقول السائق: «أبو دفنة كانت خطّاً أمامياً قبل خمسة أيام. اليوم، تفصلها عن الخطوط الأمامية كيلومترات». نواصل السير نحو الغدفة، فالسدير، لنتوقف في معصران (13 كيلومتراً شمال شرقي معرة النعمان)، والتي كانت بدورها «خطّاً أمامياً قبل يومين»، أيضاً.
لم تشهد معصران معارك عنيفة، يخبرنا الجنود بذلك، ويؤيد كلامَهم غيابُ الدمار عن القرية. لا يعكس المظهر العام للقرية ملامح «جهادية»، شأنها شأن كثير من القرى المحيطة. لا شعارات «إسلامية» على الجدران، باستثناء آية قرآنية هنا، وحديث نبوي هناك. من بين العبارات القليلة تستوقفنا واحدةٌ يبدو أنها خُطّت على عجل: «يسقط المجلس المحلّي، يسقط المخفر». على جدار آخر، خُطّت عبارة صغيرة الحجم: «مشكورة يا دنيا، ما قصرتو يا بشر»، وفوقها يافطةٌ كُتب عليها اسم مدرّس لمادة الفلسفة. ثمة مدرستان في القرية: الأولى لمرحلة التعليم الأساسي، والثانية للتعليم الثانوي. نعاين عشرات الكتب التي لم تُمسّ، بعضها يحمل اسم «الحكومة المؤقتة»، وبعضها يحمل عبارة «المنهاج السوري المعدّل» وشعارَي «هيئة علم» و«جمعية قطر الخيرية» التي موّلت الطباعة. ندخل مركزين طبيَّين، لا تزال علب الأدوية مرميّة هنا: مضادات حيوية، مسكّنات، كحول طبي، وأنابيب فتح الأوعية الدموية («كانيولا»)، وغيرها. في أحد المركزين قسم مخصّص لأمراض النساء، تشير صفحات أحد سجّلاته إلى تكرّر عمليات الولادة القيصرية لفتيات دون سن الثامنة عشرة، وهو أمرٌ شائع في كثير من المدن السورية، بفعل رواج ثقافة التزويج المبكّر. لا يبدو أن وصول العمليات العسكرية إلى القرية كان أمراً متوقّعاً، يؤشر على ذلك إعلان مزايدة علنية لاستثمار فرن معصران الآلي، أجريت في منتصف شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، بغية استثمار الفرن لمدة عام كامل. في شوارع القرية نلاحظ لوحات إعلانية لـ«مكاتب سفر»، تخصّصت في تأمين السفر إلى تركيا «من كلّ المعابر».
ما بعد سراقب
يتكرّر مصطلح «الشغل» على ألسنة المقاتلين هنا، بمختلف تدرّجاتهم، في إشارة إلى المعارك. «أغلب الشغل عم يصير بالليل»، يقول أحد الضباط، وهو يشرح خريطة العمليات في المنطقة المحيطة. ويضيف: «حالياً (يوم الجمعة) وصلنا إلى الهرتميّة، وتوقّفنا بسبب الطقس». يشير إلى الأفق، ويتابع: «هناك تقع لوف، هي هدف جديد». في اليوم التالي، سيطرت القوات على البلدة، وتوسّعت في ما حولها. تتولى القوّات على هذا المحور مهمّة السيطرة على القرى والبلدات التي تمتدّ شرق الطريق الدولي «M5» (حلب - دمشق)، فيما تستمرّ مجموعات أخرى في التقدّم شمالاً على امتداد الطريق نحو سراقب. هناك، ثبّتت القوات التركية قبل يومين موقعاً جديداً لها، بهدف قطع الطريق على الجيش، ما دفع الأخير إلى الالتفاف على النقطة نحو الغرب، حيث تقدّم إلى بلدة داديخ، ثمّ جوباس، ليصل إلى بلدة ترنبة على مدخل سراقب الغربي، بينما تقدّمت قوات أخرى لتقطع الطريق الدولي حلب - اللاذقية (M4)، وتسيطر على بلدة النيرب شماليّه.
يعدّد مصدر رفيع أسباب تتالي هزائم المجموعات المسلّحة، ويتوقف على وجه الخصوص عند «تزعزع ثقة الإرهابيين بـ(الرئيس التركي رجب طيب) إردوغان».
يقول: «لقد أيقنوا تماماً أنه باعهم». مع ذلك، ينقل الضابط عن مصادر روسية قولها إن «أنقرة لا تسيطر بشكل تامّ إلا على عشرة بالمئة من المجموعات المسلّحة». لا تشكّل النقاط التركية عقبةً في طريق العمليات. تتوافق آراء الجميع هنا على هذا، ويستشهدون بحال النقاط التي تمّ تطويقها سابقاً. يتحفّظ الضبّاط عن الخوض في نقاش حول مستقبل هذه النقاط. يقول أحدهم: «نحن جنود، نتقدّم ونسيطر وفقاً للتعليمات التي نتلقّاها. دعنا من حديث السياسة». وفيما تشير المعطيات إلى أن سراقب ستكون نقطةَ تلاقٍ للقوات المتقدّمة على المحاور الثلاثة، يشير ضابط رفيع إلى أنه «ليس بالضرورة أن تنتظر القوات بعضها البعض، فأهداف العملية لا تتوقف عند سراقب». يؤكد الضابط أن «العمليات ستستمرّ حتى السيطرة الكاملة على الطريقين الدوليين: M5، و M4 (حلب، اللاذقية)». نتساءل: هل يشمل هذا الكلام جسر الشغور أيضاً؟ أليس من المتوقّع أن تكون معركتها صعبة؟ ليردّ الضابط بثقة: «نعم، يشملها، ولا شيء صعب. انظروا إلى ما تمّ تحقيقه سابقاً، وستعرفون الجواب».