شبكة سورية الحدث الاخبارية
ما ينتظره السوريون من الحكومة القادمة يفوق كثيراً التخفيف المرحلي أو الموضعي للأعباء المعيشية؛ خفض سعر سلعة هنا، وتوفير خدمة بكلفة أقل هناك .. ما ينتظره المواطنون السوريون اليوم هو نهوض اقتصادي حقيقي يؤسس لمرحلة جديدة يشعرون فيها أن سورية تعود، واقتصادها يعود وعمرانها يعود.
وبلغة الاقتصاد ما ينتظره السوريون اليوم من حكومتهم القادمة هو أن تتم استعادة الحيوية للدورة الاقتصادية، وأن تتحسن القدرة الشرائية لدى المواطن السوري، وأن تنخفض البطالة بمعدلات محسوسة، وأن يعود مؤشر النمو الاقتصادي إلى المنحى الإيجابي، وأن ينتهي الركود والانكماش، وأن يتم كبح معدلات التضخم التي تلامس أو تقارب معيار "التضخم الجامح" Hyperinflation..
وغني عن الذكر أن هذه التحديات كبيرة وهائلة، وتحتاج إلى نهج اقتصادي مستقر، وهوية اقتصادية واضحة.
لقد قيل الكثير في الماضي عن الهوية الاقتصادية وإستراتيجيات النهج التنموي للاقتصاد السوري، حيث يرى العديد من الباحثين وأصحاب الرأي أن مصطلح "اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي طُرح كعنوان أو هوية للاقتصاد السوري في العقد الأول من الألفية الجديدة لم يجد طريقه للتطبيق الصحيح، بل كان عنواناً لنهج "نيوليبرالي" غطت عوائد الريع النفطي مساوئه إلى حين، وظهرت سلبياته وعوراته إثر حرمان خزينة الدولة من هذا المورد المهم الذي توقف نتيجة الحرب الإرهابية على سورية، ومن ثم بسبب الاحتلال الأمريكي وسرقته للنفط مع مرتزقته الانعزاليين.
لقد حقق اقتصاد السوق الاجتماعي "بنسخته السورية" في العقد الأول من القرن الحالي نمواً اقتصادياً بمعدلات معقولة وجيدة، وترافق ذلك مع زيادة الاحتياطيات المالية في خزينة الدولة، ولدى أصحاب رؤوس الأموال، ولدى الطبقة الوسطى أيضاً، ولكنه أدى في المقابل إلى تنمية ضعيفة في الريف، وضعف شديد في تطوير البنى التحتية،و إهمال متفاقم لأزمة السكن، مقابل تصاعد مضطرد لحجم ضواحي السكن العشوائي، أما في القطاع الصناعي فقد أدى إلى ازدهارٍ غير صحي لصناعات اللمسة الأخيرة والتعبئة والتغليف، تلك الصناعات التي تفتقر تكامل السلسلة الإنتاجية، وتفتقر بالتالي تحقيق القيمة المضافة الكفيلة بخفض الفاتورة الحقيقية للاستيراد وبزيادة حجم التصدير على حد سواء، وتم تعزيز ذلك كله عبر تسهيلات وإعفاءات ضريبية لرأس المال الجبان (الذي انتقده مؤخراً الرئيس الأسد)، بدلاً من أن يتم تخصيص هذه التسهيلات والإعفاءات وهذا التشجيع لصناعات القيمة المضافة الحقيقية والاكتفاء الذاتي، والصناعات الكفيلة بتوطين النمو الاقتصادي، وإعادة ضخ الأرباح في الدورة الاقتصادية، وبالنتيجة أيضاً الصناعات الكفيلة بزيادة فرص العمل، ورافق ذاك النهج غير القويم أيضاً ما يرى العديد من المواطنين أنه تهرب ضريبي هائل وواسع النطاق، وبالمحصلة غياب العدالة الضريبية نصاً وتطبيقاً على حد سواء.
إن اتِّباع النموذج الاقتصادي المسمى "اقتصاد الانسياب نحو الأسفل" أو ال( Trickle-down economics ) يبدو غير مناسب للاقتصاد السوري اليوم، فهذا النمط الاقتصادي الذي يطلق عليه أيضاً "الاقتصاد الريغاني" Reaganomics (نسبة للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان) يقوم على تخفيض الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء في المجتمع كوسيلة لتحفيز الاستثمار على المدى القصير، وإفادة المجتمع ككل على المدى الطويل، وذلك تأسيساً على فكرة مفادها أن قوة الموقف المالي للأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال سوف تنساب تدريجياً إلى الأسفل بشكل ميزات وعلاوات ورواتب للعاملين.
ولكن من حيث التطبيق على أرض الواقع فإن استئثار الطبقة الثرية بنسبة كبيرة من الثروة الوطنية يعني تلقائياً (ضمن الظروف الحالية للاقتصاد السوري) حرمان الطرفين الآخرين للمعادلة من حصتهما في هذه الثروة، فخزينة الدولة ستُحرم من العوائد الضريبية، وسينعكس ذلك على التقدمات الاجتماعية والمالية والقروض التي يستفيد منها الطرف الثالث ممثلاً بالطبقة الوسطى والبروليتاريا، فالعديد من أقطاب الطبقة الثرية لدينا هم أصحاب سمعة غير مشجعة فيما يتعلق بزيادة الرواتب ما يتناسب مع معدلات التضخم، وأيضا ً فيما يتعلق بتقنين (أو قوننة) أوضاع العاملين وتسجيلهم بشفافية في التأمينات الاجتماعية، فضلاً عن عدم وجود الضوابط الكفيلة بأن لا يصبح انسياب الثروة "نحو الخارج" (كما درجت العادة)، بدلاً من أن يكون "نحو الأسفل"، وهو ما يعني عملياً نزيفاً مستمراً يطال الثروة الوطنية وحجم المال المستثمر ضمن الدورة الاقتصادية.
يتمثل أحد الخيارات البديلة بدفع كميات متزايدة من حجم الثروة الوطنية إلى يد الطبقة الوسطى والبروليتاريا عبر تحقيق العدالة الضريبية بشمولها الطبقات الأكثر ثراء، وهو ما سيزيد لاحقاً حجم الإنفاق لدى الطبقة الوسطى والبروليتاريا على البضائع الاستهلاكية والسلع المعمرة على حد سواء، أي بالمحصلة التخلص التدريجي من الركود، وتدعيم أرباح رأس المال بصورة معقولة ومتوازنة كنتيجة لاحقة.
إن تخصيص الإعفاءات الضريبية للاستثمارات ذات القيمة المضافة الحقيقية (وحسب) من شأنه أن يسهم تدريجياً أيضاً في تعديل الميزان التجاري، وبالتالي وقف التدهور المستمر لقيمة الليرة السورية، وتعزيز القدرة الشرائية للمواطن السوري على حد سواء.
بالأمس ألقى فرع الأمن الجنائي بدمشق القبض على مطلوب خطير بحقه ( 54 ) إذاعة بحث، والحقيقة أن استعادة دولة القانون لا تكون فقط عبر توقيف أمثال هذا المطلوب من الذين استفادوا من ظروف الحرب والإرهاب للتملص من أجهزة إنفاذ القانون، بل تكون أيضاً بإخضاع بعض أصحاب رؤوس الأموال الذين استفادوا من الظروف ذاتها لسلطة القانون، فأولئك الذين هرّبوا أو احتكروا أو حصّلوا امتيازات اقتصادية واستثمارية غير عادلة، وأيضاً أولئك الذين تهربوا من الضرائب، جميعهم خارجون عن سيادة القانون، ومما لا ريب فيه أن منع الاحتكار والامتيازات غير المشروعة وضبط التهرب الضريبي هي أسس شديدة الأهمية لاستعادة دولة القانون، وأي دولة تتمتع فيها سلطات المباحث الجنائية أو السياسية بسطوة وفعالية أكبر من مباحث مكافحة التهرب الضريبي وهيئات منع الاحتكار والرقابة المالية والإدارية ،هي دولة تسير (في الإطار الاقتصادي والمجتمعي) باتجاه خاطئ.
إن الاشتراكية التي تعتنقها أغلبية الأحزاب الفاعلة في سورية كإيديولوجيا لها مفاهيم وتعاريف كثيرة ومتباينة، فهي ليست ملكية الدولة لوسائل الإنتاج لدى الجميع، وليست دولة الرعاية لدى الجميع أيضاً، ولكنها تتضمن لدى الجميع مفهوم العدالة الاجتماعية، هذا المفهوم الذي يقوم بالدرجة الأولى على العدالة في توزيع الثروة..وهذا هو المطلوب من الحكومة العتيدة اليوم.
بقلم: د. أسامة دنورة
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا