سورية الحدث الاخبارية _ معين العماطوري
قرنين ومضافة "عرى" القديمة شاهدة على أهم المواقف والقرارات التي أتخذها زعماء وفعاليات جبل العرب، إضافة لما قدمته من خدمات الضيافة وإغاثة الملهوف.
تعتبر المضافة الأقدم في الجبل لأنها حاملة لمجموعة كبيرة من الأحداث والوقائع التي ما زالت الذاكرة الشعبية تزخر بها، منها على سبيل المثال تلك المضافة التي كانت تأوي الضيوف من مختلف بلدان العالم، وتطعم الجائع، فقط عمد أصحابها إعداد يوميا ما بين 5 إلى 7 "خلاقين" وهي وعاء من النحاس كبير يتسع من 4 إلى 5 "تمتدات" وهي وحدة قياس وزن و"المد" هو 20 كيلو غرام، أي أن الدار كانت تطبخ من البرغل كميات كبيرة وتقدمها للقادمين إليها، حتى أن المضافة التي قدمت هذه الكميات من الأطعمة على الضيوف اتسعت الى الناس وآرائهم وما يساهموا فيه في حماية المجتمع من صراعات وحل الخلافات والنزعات، وإذا كان لكل امرء من اسمه نصيب فإن مضافة "عرى" ومعنى "عرى" في اللغة "لفيف الشجر الملتف الذي لا تسقط أوراقه في الشتاء"، وتعني أيضاً "النفيس من المال" وكذلك "عرى الليل اي البرد"، إذا هي الجامعة المانعة لتنوع مجتمعي يحمل المبادرة الإنسانية والقيمية ليشكل وحدة مجتمعية متكاملة،
والمضافة سكنت قبل 200 عام ولكن وجدها في "عرى" منذ مئات السنين، فهي أي المضافة تعود بفنونها للفن العمراني المتميز من العمارة النبطية والتواجد السكاني فيها يقودنا الى فترة الزمنية، والزائر لها والناظر إلى أسقفها والمشاهد للأقفال والمفاتيح بقناطرها يشعر بقيمتها التاريخية عمرها الزمني، ولهذا اتخذها أهل الجبل عبر صراعهم مع الاحتلال العثماني المركز الأساسي في التداول والتشاور ومصدر القرار المصيري..
ويعود تأسيس المضافة اجتماعياً إلى "اسماعيل الاطرش الثاني" الذي دخل المضافة بشخصيته الفذة والآفاق الوطنية قبل قرنين، وأكسبها القيمة في جعلها مركز الإشعاع للموقف واتخاذه وتقرير مصير افراد المجتمع من خلالها، وكثر من الزعماء بلاد الشام والأمراء والشيوخ والملوك من زارها، ونهل من معين الرأي السديد فيها رؤية ثاقبة للتصدي للمشاكل والمعوقات التي كانت تعترض حياة الناس يومها، وبالعائد إلى قانون الدولة العثمانية الجائر، فإن المجتمع أفرز ما أراد لتنظيم حياته، ومن خلال المضافة قدم المجتمع قانوناً اجتماعيا وضعيا يحمل قيم الحياة ومبادئ الإصلاح والتكافل الأجتماعي، وهذا يعود إلى عمق الوعي الاجتماعي عند أهل الجبل، والتوافق بين العائلات وشيوخها وزعمائها، على التوجه نحو مضافة "عرى" لتكون المركز الذي يصدر منه قرار الحرب والسلم، وكرس الراحل المؤسس لمضافة "عرى" "اسماعيل الأطرش" هذه الرؤى مؤكداً على ذلك الرحالة "قس ووتر" الذي وصفه: "انه اشجع رجل في شعب شجاع حيث يتفوق على بقية الزعماء بفطنته وحنكته وسياسته إن سمائه تدل على الرجل الذي يتحلى بالشجاعة والإرادة الفولاذية فهو ربع القامة فلا يبدو بارزاً وهو يقف بين زائريه، عنقه القصيرة ومنكبيه العريضتين وأطرافه الضخمة تدل على قوة فائقة، هيئته العامة ذو ملامح عربية أصيلة، حديثه موجزاً واشد إيجازاً في أجوبته"، لقد استطاع من خلال المضافة تثبيت الزعامات بالمشاورات فيها، ونشر الاهازيج والغناء وتكريم الشهادة والشهداء، وتناول الاحاديث المهذبة والوطنية والحث على النضال والبطولة وخلق رموز للأحداث ونشرها ثقافتها، لتصبح المضافة هي الاولى في جبل العرب والمآل لأهالي الجبل بعد أن اشتهرت بالكرم والجود بالدرجة الاولى ورمز العزة والرخاء والبطولة والوطنية بالثانية، وأهلها يدافعون عن اهالي الجبل رغم الضريبة الكبرى التي كان يدفعها، ولكن وربما يذكرون بمقولة إذا ارادوا ان يصنفوا كريما يقولون "كرمك كما كرم مضافة عرى".
ومن مآثرها التاريخية والوطنية تشكل مضافة "عرى" الأقدم بتاريخ الجبل حيث كانت مقراً ومركزاً للمناسبات الوطنية التي ضمتها المضافة إذ عندما رفع العلم العربي في ثلاثين من ايلول عام 1918، وفي اليوم الثالث منه احتفل ابناء الجبل والقلمون وحوران والقنيطرة في مضافة "عرى" بهذه المناسبة، والاحتفالية الثانية كانت بعد صدور العفو عن المبعدين عن الوطن وذلك عام 1936 والتي تداعى الزعماء للاحتفال بمضافة "عرى" للاحتفال بالثوار القادمين من وادي السرحان، إذا هي مركز الفرح ومصدر القرار في الحرب والسلم.
تعاقب على دار عرى منذ أن أتى مؤسسها "إسماعيل الأطرش" 1855 والمتوفي عام 1868عدة شخصيات جميعها تتمثل بشخصية المؤسس فروسية وكرم حذاقة وراجحة العقل والموقف فجاء بعده من بدء ببناء الدار وهو "شبلي بيك الأطرش ابن اسماعيل" الملقب شيخ مشايخ الجبل وهو الشاعر وله دواوين من الشعر وكان أحد المناضلين ضد العثمانيين بحيث نفاه الأتراك لسنوات عدة وتوفي عام 1905، وتسلم مقاليد المشيخة بعده "يحيى الأطرش" والذي عمل على بناء المدخل الرئيسي والصالون الواقع في مدخل الدار والذي يعود تحفه إلى الطريقة الدمشقية القديمة والرومانية في البناء والأسقف، وتوفي عام 1914 ثم جاء بعده "سليم الأطرش" حاكم الأول لدولة جبل الدروز حيث قام ببناء الجهة الجنوبية من الدار والذي اتفق الشريف حسين مع رؤوساء عشائر العربية في بلاد الشام على تنصيبه "أميراً" فكان أول أمير تسلم مقاليد الأمارة بدار "عرى" والذي تميز بموقفه وكرمه وشجاعته فقد استطاع أن يخفف أعباء الضرائب عن معظم القرى الشمالية وحين وصل إليه مرسال من دير صيدناية حاجة أهلها في ريف دمشق ولبنان إلى الدقيق أرسل لهم مئة جمل محمل بالدقيق وهذه الوثيقة موجودة في كنيسة صيدناية إلى تاريخه، إضافة لمواقف وطنية عديدة له، توفي عام 1923، وتسلم خلفاً له الأمير "حمد" الذي لم يعمر طويلاً وتوفي عام 1927، ثم جاء "الأمير حسن الأطرش" الذي تميز بشخصية متنوعة الجوانب إضافة لرجولته وفروسيته وعقله وذكائه فاستطاع أن يخترق الأوساط الاجتماعية والسياسية والثقافية وتسلم مناصب عدة /وزيراً ومحافظاً وبرلمانياً/ وكان واحداً من صناع الجلاء في سورية وخاصة عام 1945 مع مجموعة من الضباط وعلى رأسهم د. توفيق عز الدين، كما بنى المضافة الجنوبية وتوفي عام 1977 ليتسلم بعده الأمير "يحيى الأطرش" الذي قام بترميم القاعات العلوية وتوفي عام 1984، وتسلم الأمارة من بعده "الأمير سليم زيد الأطرش" الذي تفوق عن أقرانه بالشجاعة والرجولة والكلمة الجريئة وقام بترميم الجهة الشمالية من الدار الحرملك المشيدة بالطريقة العثمانية وتوفي عام 2003، ثم تسلم الأمير "شبلي زيد الأطرش" الذي تميز بصفات متعددة أولها السياسية الهادئة ، والعقل الراجح، الكرم والفطنة، والسكون والرزانة، وامتشق سيف الحوار ليكون أحد الشخصيات البارزة في التاريخ المعاصر حيث استطاع أن يخمد نار الفتن لمرات عدة ويحقن الدماء بمواقفه وعقله، وشكل علاقة تفاعلية مع المجتمع تسودها الاحترام والود والإنسانية، وبعد أن رمم الصالون بمدخل الدار وأرض الدار والدرج المدور وأسس مكتباً لاستقبال المراجعين توفي عام 2015 ليتسلم من بعد شقيقه "الأمير جهاد زيد الأطرش" الذي فاق الوصف برجولته ونطقه كلمة الحق وشجاعته ولكنه لم يعمر حيث أصابه مرض عضال وتوفي عام 2019 ليتسلم الأمير الشاب "لؤي شبلي الأطرش" الذي يعمل على ترسيخ قيم السلف وقام بترميم الدار بالكامل، واتخذ من المضافة مركزاً تنويرياً للثقافة والعمل الإنساني وشجع العلم والمتفوق وساهم بتقديم العلاج والأدوية المجانية للمرضى، ورفع سوية العلاقة مع أفراد المجتمع على مختلف تنوعه....
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا