«الطليعة المقاتلة» ليست مجرد طيفٍ دموي يُؤرق جماعة «الإخوان المسلمين» العاجزة عن تقمّصه او التبرّؤ منه، بل هي الجذر الثاني بعد جماعة الجهاد المصرية اللذين تفرّعت عنهما معظم الحركات الإسلامية المتشددة التي أخذت تنتشر كالفطر في ظلال الأزمات العاصفة التي تمر بها المنطقة.ولم يكن الترابط بين الحاضر الكالح بدمويته وبين الماضي القريب الذي شهد أحداث الثمانينيات بحاجة الى دليل، فالتاريخ يعيد نفسه، وإن كان يعود بكل هذا الجنون الخارج عن أي سيطرة غير متوقعة. لكن الاقدار شاءت ان تتجسد في معركة حلب الأخيرة تجليات شديدة الوضوح تؤكد الترابط بين الحاضر والماضي، وتمنح انطباعاً راسخاً بأن ما يحدث اليوم ليس سوى الموجة الثانية من عاصفة التكفير التي هبّت على البلاد قبل 40 عاماً.استنزاف العقول والأدمغة، والعنصرية الطائفية، واستهداف الجيش، هي وسائل مشتركة تُدمن الحركات «الجهادية» على استخدامها في سبيل تحقيق حلمها الأزلي بإعادة الخلافة كنظام حكمٍ تكون لها فيه الغلبة والنفوذ واحتكار القوة والتمثيل.في العام 1979، كان الجيش برغم بدء عمليات الاغتيال التي استهدفت كبار العقول العلمية والفكرية في سوريا، قابعاً في ثكناته ومعسكرات تدريبه، عندما طعنته في الظهر سكين ابناء جلدته وأراقت دماء 300 طالب ضابط وصفّ ضابط، لا ذنب لهم الا ان انتماءهم الديني والمذهبي كان يعد كفراً لدى الفاعلين، في أبشع عملية غدر يمكن تصورها، وهي مجزرة مدرسة المدفعية الشهيرة التي قادت البلاد آنذاك للانزلاق في آتون احداث امنية وعسكرية استمرت أكثر من عشر سنوات.وتبرز مدرسة المدفعية كمعْلَم أساسي لا غنى عنه لفهم العديد من الملابسات التي تلفُّ الحرب السورية، إلى جانب معالم أخرى أبرزها سجن صيدنايا. ففي مدرسة المدفعية، انغرست بذرتان، الأولى بذرة التكفير التي غرسها النقيب ابراهيم اليوسف عندما قاد المجزرة ضد من يفترض أنهم متدربين لديه، والثانية بذرة الإخاء والتعايش التي سقاها بدمائه كل من محسن عامر ومحمد عدوية اللذان آثرا الشهادة مع زملائهم رافضين النجاة على قاعدة الفرز الطائفي. واليوم يعود الفضل لآلاف الضباط والجنود ممن رفضوا نحر الوطن بسكين الطائفية وأبوا إلا الوقوف جنباً إلى جنب مع رفاق السلاح من الطوائف كافة لمواجهة موجة التكفير الثانية والأشد عنفاً.نشأ تنظيم «الطليعة المقاتلة» أواخر ستينيات القرن الماضي على يد مروان حديد أحد متزعمي جماعة «الاخوان المسلمين»، وكانت مدينةُ حماة مسقطَ رأس التنظيم الذي امتد إلى مناطق أخرى، أهمها أحياء صلاح الدين والسكري وسيف الدولة في حلب، وجسر الشغور وتفتناز في إدلب. كانت هذه المناطق هي المعاقل الأولى لأول جماعة تكفيرية تظهر فوق الأراضي السورية، ويبدو أن لعنة هذه الجماعة لاحقت هذه المناطق التي لم تستطع تطهير نفسها منها، لتعود بعد 40 عاماً وتكون معقلاً لجماعات عديدة تحمل الفكر الدموي والعقيدة القاتلة ذاتهما. وقد شهدت هذه الأحياء في بداية الأحداث السورية محاولة إحياء تراث «الطليعة» عبر استرجاع أناشيدها وخطبها وإذاعتها في الشوارع والمساجد، كما أن أحد الفصائل المسلحة المنتمي إلى «جيش الاسلام» في حلب لا يزال يحمل اسم «الطليعة المقاتلة».وقد بقيت العلاقة بين «الطليعة المقاتلة» وبين «الاخوان المسلمين» ملتبسة وغير واضحة. وكانت جماعة «الإخوان» على ما يبدو تتعمد ترك هذا الالتباس لاحتمال الاستفادة منه بحسب التطورات، وهو ما بدا جلياً في مواقف الجماعة المتباينة من مجزرة المدفعية، إذ أنكرت بدايةً في مجلة المجتمع مسؤوليتها عنها وحاولت التنصل من تبعاتها، لكنها عادت وتبنت المسؤولية عنها في نشرة «النذير»، لتستقر بعد ذلك على التبرؤ منها مع تبجيل مرتكبها، كما فعل مؤخراً زهير سالم، المتحدث السابق باسم «الاخوان المسلمين»، عندما كتب على صفحته في موقع «فايسبوك» أن مجزرة المدفعية «خطيئة كبرى بأكثر من معيار شرعي وإنساني ووطني، وكانت تبعاتها على سوريا وشعبها خطيرة جداً»، لكنه وصف مرتكب المجزرة بـ «الشهيد البطل» مترحماً عليه، في تناقض سافر.واليوم، بعد خمس سنوات من الحروب والمعارك، لا تزال جماعة «الاخوان» تتعمد ترك الالتباس ليكون السمة العامة في علاقاتها مع الفصائل المسلحة، في محاولة منها للاستعداد لقطف الثمار السياسية التي يمكن أن تنجم عن ملحمة الجرائم الحاصلة فوق الأراضي السورية. ولم يكن مستغرباً ان يظهر أنس العبدة «الإخواني» رئيس «الائتلاف السوري» المعارض ليتحدث باسم «جيش الفتح» الذي أطلق على معركة حلب اسم مرتكب مجزرة المدفعية «ابراهيم اليوسف»، ويعلن استمرار المعركة، علماً أن «جيش الفتح» أصدر بياناً استأثر فيه بنتائج المعركة، ورفض حتى مشاركتها مع الفصائل المسلحة المنضوية في غرف عمليات أخرى، لكنها سمة الوصولية لدى «الاخوان» تفرض نفسها في كل زمان.وبالرغم من الانتقادات والاتهامات المتبادلة بين «الطليعة المقاتلة» و «الاخوان المسلمين»، إلا أن الأولى كانت دليلاً على وجود جسر حيوي يسمح بحرية الحركة بين فرعي الحركة الاسلامية واثنين من أبرز تياراتها في ذلك الوقت، فكان من الصعب في بعض المنعطفات التمييز بين قيادات «الاخوان» من قيادات «الطليعة» التي اعتنقت «الجهاد المسلح» كعقيدة لها وحاولت التمسك برداء «الاخوان» كهيكل تنظيمي. وتمثل «حركة نور الدين الزنكي» نتاجاً لهذا التزاوج الهجين، فهي مقربة من جماعة «الاخوان»، لكنها تمارس طقوس الذبح ذاته التي يمارسها تنظيم «داعش»، ومما له دلالته أن ياسر اليوسف، نجل ابراهيم اليوسف مرتكب مجزرة المدفعية، هو قيادي في حركة «الزنكي»، وما زال يتمثل بمبادئ والده ويدافع عن عنصريتها وطائفيتها.في ذلك الحين، لم يكن مصطلح «السلفية الجهادية» قد انتشر بعد، لكن مما لا شك فيه أن «الطليعة المقاتلة» عبر مؤلفات قادتها ورسائلهم وعبر ممارساتها وسلوكياتها وضعت اللبنات الأولى لظهوره وانتشاره بالتزامن مع تصاعد حركة «الجهاد» في مصر.وبالفعل، فإن العديد من قادة «الطليعة المقاتلة» سرعان ما وجدوا أنفسهم ينجذبون باتجاه أفغانستان، حيث شهد العالم بفعل تدخلات إقليمية ودولية وأدوار استخبارية غير خافية على أحد، ولادة تنظيم «القاعدة» باعتباره التجسيد الأعلى للحركات «الجهادية» التي كانت عقيدتها «السلفية الجهادية» قد بدأت تتبلور أكثر فأكثر.ومن أبرز هؤلاء أبو بصير الطرطوسي الذي يعد من أشهر منظري «الجهاد» في العالم، والذي عاد إلى سوريا بعد اشهر من اندلاع الأحداث فيها متبنياً نهج حركة «أحرار الشام»، وذلك بعد 30 عاماً من الفرار نتيجة دوره القيادي في «الطليعة المقاتلة»، وأبو فراس السوري الذي قتل بغارة أميركية مؤخراً، وكان كذلك من قادة «الطليعة» وذهب إلى أفغانستان ثم إلى اليمن، قبل أن يعود إلى سوريا ويصبح المتحدث الرسمي باسم «جبهة النصرة» وعضو مجلس الشورى فيها. وكذلك القائد العسكري العام السابق في «جبهة النصرة» أبو همام الشامي كان من قيادات «الطليعة» وذهب إلى أفغانستان ولبنان والعراق قبل أن يعود إلى سوريا لتقتله غارة جوية أيضاً. ويبقى أبرز هذه الأسماء هو أبو مصعب السوري الذي يعد منظّر «الجهاد» المفضل عند «أحرار الشام» و «جبهة النصرة»، والذي تحظى كتاباته ونصائحه المكتوبة أو الصوتية بانتشار واسع في أوساط الفصيلين. وقد كان أبو مصعب أحد أبرز قادة «الطليعة المقاتلة» وسافر إلى أفغانستان واتهم بعلاقته بتفجيرات مدريد قبل أن يلقى القبض عليه، ويبقى مصيره مجهولاً.وبالتالي فإن هذا السيل «الجهادي» الجارف الذي تئنّ المنطقة والعالم تحت وقع تدفقاته، استطاع أن يبتعد عن منبعه الأساسي الذي هو صخرة «الاخوان المسلمين»، لكنه ما زال مرتبطاً معها بروابط فكرية ومنهجية عدة، بل يكاد هذا السيل اليوم أن يتحد مع مجرى «الاخوان» في ظل عدم إمكانية التمييز بينهما، خاصة أن كل الأطراف باتت تحمل السلاح وتنتهج نهج «الجهاد»، وقد انتفت جميع الفوارق الشكلية السابقة، بعدما أعلنت «أحرار الشام» تحولــها من مشروع أمة إلى ثورة شعب، وأعلنــت «جبــهة النصرة» تغيير اسمها إلى «جبهة فتح الشام» في إشارة إلى أن مشروعهما مقتصر على سوريا وليس له صبغة عالمية، وهل مشروع «الاخوان» إلا هذا؟.السفير
التاريخ - 2016-08-10 8:41 AM المشاهدات 754
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا