تمتلئ المقاهي في المدن السورية الآمنة بالروّاد. رائحة الدخان المنبعث من تدخين السجائر أو «النراجيل» باتت طابعاً يسم معظم تلك المدن. «نستهلك الوقت» يقول أحمد المتخرّج حديثاً من كلية الهندسة الكهربائية، وهو وحيد أي غير مُلزم بالخدمة العسكرية، يضيف: «ما الذي تستطيع أن تفعله، أن تعمل؟ لا وظائف حكومية ولا معامل أو صناعات، الأماكن الوحيدة التي يقصدها الشبان هي هذه المقاهي، البعض يعمل فيها، وما تبقّى يجلسون وينفثون الدخان من النرجيلة».تسبّبت الحرب السورية بتغييرات جذرية في بنية المجتمع السوري الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، انخفضت قيمة العملة السورية بنحو 91 في المئة، ما يعني أن تكاليف الحياة ارتفعت بالمتوسط نحو 10 أضعاف، كما ارتفعت معدلات البطالة لمستويات قياسية، فتجاوزت وفق إحصاءات الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان الـ70 في المئة. أمام هذا الواقع تضيق الخيارات أمام الشباب السوري الباحث عن «فرصة للاستمرار في الحياة»، نسبة كبيرة من الشبان اختاروا الأعمال القتالية، فالتحقوا بالفصائل المؤيدة للجيش السوري في مناطق سيطرة الحكومية، أو اختاروا «العمل الجهادي». هذه الخيارات وفّرت للبعض «طريقة للحياة» على الرغم من انخفاض الرواتب، والتي لا تتجاوز في أوقات كثيرة الـ70 دولاراً شهرياً للمقاتل في مناطق سيطرة الحكومة مثلاً.الهجرة، مثّلت لنسبة أخرى من الشباب «بوابة للخروج من الجحيم». بلغت نسبة المهاجرين (عبر موجات اللجوء العام الماضي) نحو ثلاثة ملايين نسمة، معظمهم تركّز في تركيا والأردن ولبنان، فيما وصلت بضع مئات الآلاف من السكان إلى الشواطئ الأخرى من البحر المتوسّط وتوزّعت على دول الاتحاد الأوروبي، لتخوض تجربة «اللجوء المفيد»، عبر اتباع دورات تعلّم اللغة والبحث عن فرص في التعليم أو فرص في سوق العمل.وسط هذه الخيارات المعدودة والمحفوفة بالمخاطر، اختارت نسبة من الشباب البقاء في الوطن، والبحث عن طرق أخرى، أو خيارات أخرى للاستمرار في الحياة على الرغم من انعدام فرص العمل. أحد هذه البدائل تمثّل بالعمل عن بعد (التربّح عبر الإنترنت)، سواء عبر الكتابة أو الترجمة أو التصميم، حيث بدأت تشهد هذه الظاهرة نمواً في الشارع السوري، خصوصاً أن هذا النوع من الأعمال يُوفّر دخلاً بالعملة الصعبة، ما يعني استفادة الشاب من فرق العملة لتحسين الدخل.يُدير محمد حبش، المتخرج من كلية الاقتصاد في جامعة حلب ـ يعمل في منزله في مدينة حلب ـ موقعاً الكترونياً خاصاً بالتكنولوجيا، ويُشارك في محاضرات عبر الإنترنت وورشات عمل، كما يقوم بتنفيذ مشاريع عدة وفقاً لطلب زبائن يعيشون في دول أخرى. يقول حبش لـ«السفير»: «العمل عبر الإنترنت لم ينتشر انتشارا كبيرا في سوريا، إلا أنه خلال السنوات القليلة الماضية شهد انتشاراً مقبولاً، لكونه يؤمن دخلاً جيداً إلى حد ما». ويتابع: «أعمل منذ ست سنوات عبر الإنترنت كلياً، ولا أعتمد على مصدر دخل آخر، يُحقّق هذا النوع من الأعمال دخلاً جيداً يكفي أسرة للعيش بكرامة». ويضيف: «يُعاني الشباب في بداية العمل في هذا المجال من عدم الاستقرار، إلا أنه مع الاستمرار وتراكم الخبرات يتحوّل إلى عمل كافٍ للمعيشة».تنحصر خيارات العمل عبر الإنترنت على مجالات معدودة، بعضها يتعلّق بالترجمة أو التصميم أو الكتابة، التجارة، التسويق الإلكتروني، وغيرها، الأمر الذي يتطلّب خبرات معيّنة للخوض في هذا السوق، إضافة إلى عدم انتشار الوعي الكافي لممارسة هذه الأعمال جعلها محصورة ضمن شريحة صغيرة. شبان آخرون من العاطلين من العمل بدأوا يشقّون طريقهم في الحياة ضمن خيارات أخرى قد تُحقّق دخلاً وأرباحاً سريعة وكبيرة، منها على سبيل المثال «المراهنات»، حيث انتشرت في الشارع السوري، وبين الشباب عامة، ظاهرة ارتياد مواقع الرهانات الخاصة بالرياضة، ككرة القدم وكرة السلة.في هذا السياق، يقول رامي، وهو أحد المهتمّين بكرة القدم والذي «يُقامر» بشكل متواتر: «يعتمد الأمر بنسبة كبيرة على دراسة كرة القدم وبعض العمليات الحسابية، ومقارنة نتائج الفرق، كما يعتمد على الحظ في أوقات كثيرة». ويتابع: «سهولة الربح دفعت الكثير من الشبان لخوض غمار هذه التجربة، فالأمر يتعلّق بالتخلّي عن مبلغ ألف ليرة سورية، وهو مبلغ تافه في مقابل الأمل بالحصول مثلاً على 10 آلاف بعد ساعة أو ساعتين فقط، يمكنك تخيّل الأرباح الكبيرة التي قد يجنيها الشخص خلال ساعات عدة».على الرغم من ذلك، يُؤكد رامي أن «المُقامرة تحوّلت إلى إدمان عند عدد كبير من الشبان، فكلما زادت المُخاطرة زادت الأرباح المتوقّعة، وأمام كل خسارة يُحاول الشاب تعويض تلك الخسارة وزيادة الأرباح».وتُعتبر المُقامرة ممنوعة في القانون السوري، إلا أن الأوضاع الأمنية خفّفت من وطأة الرقابة عليها، ما ساهم بتفشّيها كثيرا. أحد المتنفذين في مدينة اللاذقية أنشأ موقعاً خاصا للمراهنات وهو يشهد انتشاراً كبيراً.كذلك، شكّل الإتجار بالمواد المخدرة والحشيشة فرصة لنسبة من الشباب الباحثين عن عمل، تُحقّق أرباحاً وتُساعد على البقاء والاستمرار في الحياة. وارتفعت نسبة الإتجار بالمواد المخدرة بنسب كبيرة في الشارع السوري. يؤكد رئيس غرفة الجنايات في محكمة النقض أحمد البكري «ارتفاع عدد مروّجي المخدرات»، ويوضح في تصريح صحافي أنه «تمّ ضبط العديد من مروّجي المخدرات الذين حاولوا نشرها، لا سيما ضمن الفئات العمرية التي تتراوح بين 18 إلى 24 سنة»، وهي الفئة العمرية الأكثر تضرّراً من توقّف سوق العمل، والتي تُمثّل النسبة الأكبر بين العاطلين من العمل.الصورة التي رسمتها الحرب للحياة في سوريا قاتمة جداً، الخيارات المحدودة في أسواق العمل قضت على أحلام الشباب، وفرضت عليهم «الموت في ساحات القتال أو الموت البطيء»، وفق تعبير رامي، الذي يُضيف: «ما الذي يستطيع أن يفعله الشباب وسط هذه الظروف؟».السفير
التاريخ - 2016-10-19 6:12 AM المشاهدات 1483
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا