سورية الحدث
خيبة وصلت حد الصدمة، وكان يمكن للكاميرا أن تنقل علامات الغضب على وجوه كل الموظفين الذين تسلموا «فيشة» رواتبهم وبدؤوا يحملقون بحثاً عن مصير 20 ألف ليرة التي رسموا عليها الكثير من الأحلام والمخططات، وكانت المفاجأة أن صاحب الحصة الأكبر من المبلغ المحدد لم تتجاوز مخصصاته 14 ألف ليرة! اقتطاعات ترافقت مع ارتفاع إضافي في الأسعار قدره عضو جمعية حماية المستهلك الدكتور جمال السطل بما لا يقل عن 15% برغم كل الحملات العشوائية على الأسواق لضبط الأسعار، بالتزامن مع تضاعف حصة الضريبة والتأمينات وكذلك النقابات اشتركت جميعها وتقاسمت الزيادة التي أقرت مؤخراً بقيمة 20 ألف ليرة سورية.
«يا فرحة ما تمت»
الفارق الكبير بين ما توقع الناس الحصول عليه وما حصلوا عليه فعلاً دفع الكثيرين لإبداء آرائهم وتعبيرهم عن سيل من التعليقات الغاضبة:
يقول أيهم: أنا لست موظفاً، ولكن من المعيب الاستهتار بذوي الدخل المحدود، لقد رأيت اليأس في عيونهم، بينما قالت تغريد «يا فرحة ما تمت»، أما رشا فكان تعليقها هو الأقوى إذ أكدت أنها تخشى أن تتبرع لهم عوضاً عن العشرين ألف التي «وعدنا بها»
وصفت مارلين الحالة ب «المسخرة» مؤكدة أن «بلاها كان أفضل لأن كل شي ارتفع سعره»، في حين كان نوار أكثر تعاطفاً مع وزارة المالية، فتساءل فيما إذا كان الناس يريدون دولة من دون ضرائب؟
يوسف أعد حسبة بسيطة لينتهي إلى خلاصة مفادها: هل من المعقول أن يدفع المواطن ضريبة دخل تصل في العام لنحو 120 ألف ليرة، بينما قد لا تتجاوز ضريبة صاحب محل يحقق أرباحاً في العام تفوق راتبه وراتب زملائه مدة ثلاثين عاماً، وضريبته لا تتجاوز 20 ألف ليرة في العام؟! أما نداء فقالت ساخرة أنتم أصحاب رواتب «طولوا بالكون من ليس لديه دخل كيف تحسب ضريبة دخله»؟ في إشارة إلى الواقع المأسوي للعاطلين عن العمل.
عدنان جردي قال: تجار الأزمات يخطفون فرحتنا برفع الأسعار مع واضعي الضرائب، وحصة النقابات من دخولنا برغم أنهم لا يفعلون شيئاً لنا! ويضيف رامي: إن التجارب مع زيادات الرواتب مخيفة جداً، ففرحة الزيادة يسرقها الخوف من ارتفاع الأسعار، وهذا ما يحصل دائماً، برغم غياب أي مبرر لرفع الأسعار، والحقيقة أن التجار يطالبون برفع الأجور كما الموظفون، ويتصرفون على أساس أن الحصة الأكبر من الزيادة يجب أن تكون لهم وهذا ما يحصل في الواقع، سواء استنفرت وزارة التجارة الداخلية بضعة أيام أم لم تفعل.
في المقابل هنالك من لم يكترث لأمر الزيادة بمجملها، لأن الفارق الكبير بين متطلبات المعيشة والدخل سيجعل هذا المبلغ كما الفرنكات التي لا تحقق إضافة تذكر، خاصة أن دراسات المكتب المركزي للإحصاء ذكرت أن نتائج آخر مسوحاتها التي أجريت بين عامي 2017-2018 تشير إلى أن متوسط الإنفاق العام للأسرة السورية يعادل نحو 115 ألف ليرة، وهذا الرقم الذي يعود لإحصاءات قديمة تجاوزتها الأسعار بكثير، لكن مع ذلك هذا الرقم يزيد عن وسطي الدخل بنحو ثلاثة أضعاف.
أين ذهبت الزيادة؟
يقول وزير المالية د. مأمون الحمدان في أحد تصريحاته: إن السكة أصبحت معروفة حتى 2030 وإنهم على علم بما يجب أن يفعلوه كل سنة، وأكد أن هذه الزيادة استفادت منها الفئات الأقل دخلاً.
وعن مزاياها قال: إن أدنى راتب في سورية وصل في شهر واحد إلى 51966 ويدفع ضريبة ما يقارب ال 3000، وأن سقف راتب الفئة الأولى أصبح 80 ألف ليرة وضريبته 7740 ليرة، وأنه تمت إضافة المبلغ المخصص لغلاء المعيشة إلى الراتب والبالغ 11500 إذ لم يكن يخضع لاقتطاعات ولا علاقة له بالتأمين الاجتماعي ولكن بعد ضمه للراتب أصبح يخضع للاقتطاعات.
أما الباحثة الاقتصادية د. رشا سيروب فتحدثت بلغة مختلفة عن وزير المالية وترى أن كثرة الاقتطاعات للتأمينات الاجتماعية وضريبة الدخل التي قد تصل إلى 22% عند أعلى شريحة هما سبب قضم معظم الزيادة، وأكدت فكرة المالية بأن من سيشعر بأهمية الزيادة هم أصحاب الدخول المنخفضة، إذ تصل الزيادة في رواتبهم الصافية إلى نحو 50%
ورأت د. سيروب أن الزيادة لا تتناسب مع الوضع المعيشي ولا يمكن أن تنعكس على تحسين الواقع المعيشي للموظف، برغم أنها تعد في الراتب المقطوع الأعلى مقارنة بالزيادات السابقة.
وترى د. سيروب أن إحدى أهم النقاط في المرسوم هي أنه وضع حداً أدنى للأجور في القطاع الخاص (47675) ليرة، وهذا الحد يحمي العاملين في القطاع الخاص، وهو أيضاً يزيد إيرادات التأمينات الاجتماعية إذ كان القطاع الخاص يعتمد في تسجيل القسم الأكبر من موظفيه بالحد الأدنى حتى لو كان الموظف يتقاضى 100 ألف ل.س. تضيف د. سيروب أنه لكي كي يشعر الموظف بأهمية الزيادة يجب رفع الحد الأدنى المعفى من الضريبة وإعادة النظر بالشرائح الضريبية التي تستدعي تعديلاً في قانون الدخل، فضلاً عن تعديل في الحد الأدنى للرواتب بما يتوافق مع الشهادات العلمية.
للأسعار حصتها
وكما حصلت كل جهة على حصة لا يستهان بها من تلك الزيادة كذلك حال الأسواق والتجار الذين ينتظروف كل تغيير لكي يحركوا أسعارهم وأرباحهم، خبير الأسعار وعضو جمعية حماية المستهلك الدكتور جمال السطل يؤكد أن ارتفاع الأسعار لا يقل عن 15 % بعد زيادة الأجور، ويرى أنه لا يوجد سبب مسوغ لزيادة الاسعار بعد زيادة الرواتب، وإنما أصحاب النفوس الضعيفة من الباعة وعلى الأخص تجار الجملة والمستوردين هم وراء ارتفاع الأسعار بحجة ارتفاع أسعار الدولار في الوقت الذي توجد فيه كل البضائع في المستودعات قبل ارتفاع الدولار، ويؤكد أن دور مؤسسة التجارة هنا الإبقاء على الأسعار وطرح السلع على نحو كاف ودور التموين ملاحقة المتاجرين بقوت الشعب، وكانت وزارة التموين قد نظمت حملة مراقبةً جدية تم بموجبها إغلاق 157 محلاً تجارياً، ونظمت 520 ضبطاً تموينياً بحق الفعاليات التجارية المخالفة، أكثرها يتعلق بموضوع البيع بسعر زائد.
بينما أبدى أحد التجار اعتراضه على هذه الآراء مؤكداً أن القصة عند تجار الجملة أو المستوردين، وليست عند باعة المفرق الذين يضطرون لرفع الأسعار مع كل ارتفاع للدولار، وإلا تآكل رأس المال الذين يعملون به، لأنه عند شرائهم للبضائع الجديدة سيدفعون بالسعر الجديد المرتفع، وهذا يعني التعرض لخسائر كبيرة تجعلهم يخرجون من السوق. ويتساءل آخر إذا كانت البنك المركزي يمول مستوردات التجار الكبار بسعر دولار مدعوم، فلماذا يرفعون الأسعار؟ يضيف أنه لا يجد احتمال ثالث: إما أنهم لم يحصلوا على تمويل من البنك المركزي، وإما إنهم يضاعفون أرباحاً لا تخضع للرقابة!
أما متابعة الموضوع عند الحلقة الأضعف فهذا أمر غير منصف.
وكان لمجلس الوزراء نشاط في هذا المجال وهو تحديد «وثيقة أسعار» تم من خلالها تحديد أسعار المواد الممولة من المصرف المركزي وبسعر دولار أقل من السوق السوداء، وكذلك المواد المستوردة الأخرى من وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، إضافة للتركيز على تفعيل دور المجتمع المحلي والأهلي في ضبط الأسعار
الحصة الأكبر
تلتهم ضريبة الدخل الحصة الأكبر من دخل الموظفين، وما زالت هذه الضرائب تشكل النسبة الأكبر من عائدات وزارة المالية.
أستاذ المحاسبة الضريبية في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق الأستاذ د. ابراهيم العدي يقول إن الزيادة جاءت بمكرمة من السيد الرئيس بشار الاسد لتسد حاجة لدى جميع العاملين في القطاع الحكومي، ونأمل المحافظة على قيتمها الحقيقية، والعمل على تعديل قانون الضريبة، وكبح جماح الغلاء من قبل التجار.
وأضاف الأستاذ العدي أن إصدار المرسوم الأخير القاضي بالزيادة, هو حاجة ملحة لتسد جزءاً من العجز الذي يقع فيه أغلب العاملين في القطاع الحكومي, هذه الشريحة التي وقفت مع الدولة وحافظت على الكيان الإداري لكن ما حدث أن الاقتطاعات التي تعرضت لها أفقدتها جزءاً من قيمتها.
أكثر من الأطباء والمهندسين
لو كانت الزيادة بنسبة مئوية فإنها تكون أقرب إلى العدالة, فالمعدلات الضريبية كان لها دور حاسم في تآكل الزيادة, يضيف على سبيل المثال الضريبة الشهرية التي تحسم من راتب الأستاذ الجامعي في جامعة دمشق 36.689 ألف ليرة ويسدد مبلغاً مقداره 440.268 ألف ليرة سنوياً, والسؤال أي من التجار أو المهندسين أو الأطباء يسددون مثل هذه الضريبة، وبهذه القيمة؟
يرى الأستاذ العدي أن في هذا ظلماً، ويضيف أنه إذا ما أردنا أن نضيف اقتطاعات أخرى (تأمينات – نقابات) التي تصل إلى نحو 155 ألفاً يصل المبلغ الإجمالي إلى 550 ألف ليرة سنوياً.
يبين د. العدي أنه كان من الأجدى أن يكون الحد المعفى من الضريبة منذ عام 2003, يعادل 100 دولار ومعفى من الحد الأدنى, كما يحصل في دول أخرى، إذ تلجأ إلى منح حد أدنى معفى من الضريبة وحد أقصى متحرك أي إنه يعفى الحد الأدنى من دخل العامل ويتغير بموجب عوامل عدة منها إذا كان متزوجاً، أو لديه أطفال, أو لديه منزل مستأجر، بينما عندنا اتجهت وزارة المالية (لكي تريح نفسها) إلى المساواة في الإعفاء.
ويؤكد د. العدي أهمية تعديل الأنظمة الضريبية الحالية كخطوة أولى برفع الحد الأدنى المعفى, أو المبادرة إلى تشخيص الضريبة أسوة بالدول الأخرى بحيث يكون هناك حد أدنى معفى ثابت على سبيل المثال إعفاء 25 ألف ليرة من الراتب ويزداد هذا مع عشرة آلاف ليرة عن الزوجة وخمسة آلاف عن الولد أو في حال كان لديه منزل مستأجر وهكذا، مبيناً أن معدلات الضريبة على الراتب تصل إلى 22% حالياً في حين إن بعض الشركات المساهمة تخضع لضريبة ثابتة مقدارها 14 % وما يطبق لدينا غير موجود في أي دولة من دول العالم وهو أن تفرض ضريبة على الأفراد أكثر من الشركات.
قانون العجوز
الغريب والمؤسف هو أننا ما زلنا نعمل على قانون ضريبي يعود إلى عهد الرئيس حسني الزعيم «1949», فكيف يصلح هذا القانون الذي بلغ أرذل العمر لعام 2019؟ يتساءل د. العدي ويضيف: إن جميع وزراء المالية المتعاقبين منذ الاستقلال وحتى الآن لم يستطيعوا أو لم يرغبوا في تعديله أو تغييره, وهذا يدل على وجود فئة مستفيدة من بقاء نظام ضريبي متخلف ومتآكل، مشيراً إلى التأثير الذي يمارسه كبار التجار والصناعيين ورجال الأعمال ومن لهم مصلحة في إبقائه متخلفاً, لأن النظام الضريبي الحالي يقوم على تفتيت الدخول، وتالياً تفتيت الضريبة في حين في كل دول العالم يقوم النظام الضريبي الموحد على تجميع الدخول، وتالياً تجميع الضرائب بمبالغ كبيرة لذلك كان يجب على وزير المالية العمل على تعديل ضريبة الرواتب والأجور حيث تكون أقرب إلى العدالة.
ارتفاع الأسعار
البعض يربط بين زيادة الرواتب وارتفاع الأسعار وهي سبب لكنها سبب من بين عشرات الأسباب التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، مثل الفلتان الاقتصادي والدور المتآكل والمتردي لوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، مضيفاً أن الحكومة لديها القدرة على التحكم بالكتلة النقدية، والتجار لديهم الكتلة السلعية، ليبقى ارتفاع الأسعار مرتبطاً بشكل أو بآخر بالمعروض في الأسواق.
جنة ضريبية للتجار
يكرر د. العدي وصفه للواقع الضريبي في سورية «بالجنة الضريبية» للتجار ورجال الأعمال في جميع المراحل السابقة والحالية في إشارة إلى موضوع التهرب الضريبي الشائع, لافتاً إلى الفساد الضريبي المستشري في ظل قانون ضريبي متخلف مستشهداً بمثال عن امتلاك شخص ما عدداً من الشركات، إذ لدينا تعامل كل شركة بضريبة منفصلة, وبهذه الطريقة نعمل على تفتيت الضريبة في حين في دول العالم يتم تجميعها.
مخالفة دستورية
يشير الأستاذ العدي إلى وجود مخالفة دستورية في النظام الضريبي الحالي، إذ تتضمن الشريحة السادسة من الرواتب والأجور ضريبة قيمتها 15 ألف ليرة، بينما تنخفض في الشريحة السابعة إلى 10 آلاف ليرة، وكان من المفروض أن تكون الضريبة تصاعدية, ولكن لأن من يضع القوانين هم موظفون أكثر من أن يكونوا من أصحاب الشأن فيحدث مثل هذا الخلل، ودعا رئيس قسم المحاسبة إلى الاستفادة من مئات الأبحاث التي أنجزتها كلية الاقتصاد وتتعلق بالسياسات المالية, والتي تدفن في الأدراج وأكد أنه لم يسبق لأي وزير من الوزراء الذين مروا على وزارة المالية أن طلب الاستفادة من أي بحث، برغم تيقنه من أن الأخذ بها سينعكس إيجاباً على الوطن واقتصاده.
يسرى ديب - بادية الونوس
تشرين
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا