سورية الحدث الإخبارية- السويداء-معين حمد العماطوري
لعل انتصار معركة الكفر شكلت رؤية جديدة في التعامل مع الانتداب الفرنسي، ونمت الروح الوطنية التي حاول الفرنسيين إخمادها، ولكن جذور الانتماء للجغرافيا السورية جعلت من أبناء الوطن يفخر كل بأخيه في الجهاد، إذ ما بدأت الفرنسيين بالدخول حتى انبرى البطل يوسف العظمة لمواجهتهم بمعركة غير متكافئة عدة وعتاد، ولكن كي لا يقال أنهم دخلوا دون مقاومة، وحين علم الثوار بذلك شكلت مجموعة مقاتلة من أبناء الجبل وذهبت للالتحاق بركب البطل يوسف العظمة، ولكن كان الزمن أقوى والمعركة أفلت سريعاً بعد استشهاد البطل يوسف العظمة في قلب المعركة ولعله الوزير الدفاع الأوحد عالمياً وبتاريخ العالم المعاصر يخوض معركة بنفسه ويستشهد، والأهم أن البواسل والأبطال الذين خاضوا معه المعركة شكلوا التنوع السوري المقاوم للانتداب، ولعل القارئ للتاريخ والحامل لروح الوطن والوطنية يشعر تماماً أن سورية بتاريخها وحضارتها هي قلب واحد، وهي من طبقت الأقوال المأثورة للأنبياء حينما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين بتعاضدهم وتراحمهم كمثل الجسم إذا اشتكى منه عضو تداعت جميع الأعضاء عليه بالحمى والسهر"، ولهذا يشعر الناظر في بواطن واحداث التاريخ الوطني والذاكرة الوطنية في وقائع الثورة السورية الكبرى أن رجالاتها وعدتها الوطنية من الشمال إلى جنوب واحد بالهدف والموقف والثبات ولا يستطيع أحد أن يفصل الحسكة عن السويداء أو الرقة ودير الزور أو حلب أو ادلب والساحل والمنطقة الوسطى وسهل حوران عن بعضه بعضاً، فأيقن الشعب بالرؤية والموقف والهدف بوحدة المصير الواحد وشكلوا الثوار فيما بينهم قيمة للأعمال والأفعال كل منهم بما قدم وطنياً ...
وبالإشارة لأحداث الثورة السوري الكبرى ومجرياتها هناك وقائع لم يرنو إليها الباحثين لتجسيد القيم الاجتماعية والوطنية بين الثوار بالأعمال والأفعال، بل ظلت محصورة مناطقياً بالمعارك التي خاضها ثوار كل منطقة، وهنا تحسب للباحث المهندس سميح متعب الجباعي صاحب كتاب /ذاكرة الثورة 1920-1939 المجاهد متعب الجباعي/ على توثيق وتدوين أحداث مجهولة في بطون المراجع التاريخية والتي ربما أغفل عنها المؤرخين عن قصد أو غير قصد، ولأن الفضل يعرفه ذوه عمد الباحث سميح الجباعي على نفض الغبار وتوثيق تلك الأحداث لأهميتها في زرع القيم الجمالية الوطنية في نفوس الأجيال القادمة بمعرفة تاريخ أهلهم الوطني وأبناء سورية الوطنيين في الشمال والجوب، ومن تلك القيم التي وثقها الباحث المهندس "سميح متعب الجباعي" في منجزه التاريخي الموثق والمدعوم وثائقياً ومرجعياً علمياً قصّة نفي المجاهد علي عبيد ورفاقه:
حيث يرويها بالكتاب وفق ما جاءت على لسان صاحبها فيقول الباحث الجباعي مدعوماً ما قاله المجاهد علي عبيد:
يصف المجاهد علي عبيد في "مذكّراته" قصّة نفيه مع رفاقه، وما لقيه وإيّاهم من حفاوة وتكريم أثناء وجودهم في (الحسكة)... فيقول:
"...مشينا مع الشّمس من الشّام إلى جيرود، فتوقّفنا مقدار ربع ساعة، ثم مشينا إلى القريتين، ثم إلى تدمر مع المساء، ونزلنا ضيوفاً على حضرة الأمير حمد وعبد الغفّار باشا ونسيب بك وعقلة القطامي، وفي صباح اليوم التّالي سافر معنا الأمير حمد من تدمر إلى دير الزّور، ومنها إلى (حسجي)- يقصد الحسكة - فوصلنا السّاعة الرّابعة ليلًا، ونزلنا ضيوفاً على القائم مقام (عارف بك الدعيجي). وفي صباح اليوم التّالي دخل علينا رجلٌ مهيب الطّلعة، مرتدياً عباية وكوفيّة وعقالاً، وهو شيخ ذو لحية بيضاء، وعلى جنبه سيف، قِرابُه من الفضّة البيضاء الصّافية، فسلّم علينا سلامَ محبٍّ صادق، وبعد تناول القهوة، وتعريف القائم مقام بنا وبه بأنّه مسلط باشا شيخ عشيرة الجبور قال: "يا حضرة القائم، أنا عرفت بقدوم هؤلاء الذّوات، وأنا لا أعرفهم شخصيّاً، لكن أعلم من تاريخ حياتهم أنّهم أمراء وحكّام جبل الدّروز، الذي هو حياة سوريّة، ورافع شارب العرب. وليس هناك عشيرة أو طائفة قدرت على مقاومة الأتراك إلا هم. فعليه.. أنا عندي من فضل الله أربعة عشر ولداً، مُقدِّمٌ لك منهم ستّة بدلاً عن هؤلاء الرجال الستّة، وهم في ضيافتي ولو لخمس سنين، إلى أن ترضى عنهم فرنسا. ويجب أن تعلموا أنّنا لا نقبل عليهم أقلّ إهانة أو مغدوريّة قطعاً، ونعدّهم ضيوفاً أعزّاء على جزيرة العرب. وإذا كان فكر فرنسا في شيء يمسُّهم فليكن معلوماً عندهم عدم رضانا البتّة، ولو حصل مهما حصل"
يقول المجاهد الشّاعر علي عبيد:
الله بلانـــــــــــا بــــالأجــــــــانب بــــــــليـّــة وأهم منهم في وطننا الضّليلين
البعض دايـــــــــــم مـرتقــــب للهديّـــة والبعض منهم طامعاً بالدّواوين
ما تخدم الأجنـــــــاب نفساً أبيـّـــــــــة ولا سمسروا للغير ربعاً شريفين
ولا وقّفت دولاب سير القضيّة إلا المطامع والعمد والزّعيمين
أخيراً نلاحظ من خلال السرد التاريخي أن الحادثة حملت قيماً عربية، فيها الإباء والشمم والكرم والعطاء كيف دخل البطل المجاهد الذي لا يقل أهمية بكرمه عن أي مجاهد لأن العرب عرفت الكرم بالرجولة وربط الكريم بالشجاع والشيخ مسلط باشا شيخ عشيرة الجبور كان واحداً من هؤلاء الأبطال بموقفه وطلبه راهناً ستة من أبناءه لخمس سنوات مقابل لا يرضى الإهانة او إصابة أي من الثوار رفاق علي عبيد بأذى، لعمري هي حادثة تقشعر لها الأبدان وطنياً وإنسانياً واجتماعياً وأخلاقياً...وهي ليست غريبة على عشيرة الجبور وكرمهم بل هي جزء من منظومتهم الانتمائية لأصول عروبتهم القحطانية، وهذا ما أشار إليه المجاهد علي عبيد في قصيدته التي من أراد قراءتها لابد له من العودة إلى كتاب /ذاكرة الثورة 1920-1939 المجاهد متعب الجباعي/ لمؤلفه الباحث المهندس سميح متعب الجباعي ويقرأ القصيدة بوثيقة ممهورة بختم المصداقية لما تحمله من أحداث أدبية لاحقاً لأن الحدث يحمل قيم فكرية وأدبية كما هو انتصار معركة الكفر وما حملت للأدباء من مادة وصور تعبيرية في إغناء محتواهم الإبداعي وعنهم الرؤية الجمالية في تشخيص الواقعة بحيث لا يفقد متعة التلقي بها لأن للحديث بقية
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا