سورية الحدث
لعل أهم ما قدمته قمة العشرين للسياسيين المهتمين بمسار الأحداث في العالم هو المواقف الصريحة أو المبطنة أو التحرّكات التي عبّرت بشكل أو بآخر عن الاستنتاجات التي توصلت إليها معظم الأطراف من خلال العملية العسكرية في أوكرانيا والتي دخلت شهرها التاسع. حيث إن كل المواقف التي تمّ التعبير عنها تلميحاً أو تصريحاً هي نتاج المعارك التي هي في حقيقتها بين الغرب وروسيا على الأرض الأوكرانية. وهذا لا يعني أبداً أن الاستنتاجات كانت متفقة في الرؤية أو الهدف أو المسار المستقبلي للأحداث.
في الغرب الاستعماري المتأزم من ظهور الصين كقوة اقتصادية وعلمية تهدد هيمنته كقطب واحد هناك اتجاهان مختلفان لتفسير ما جرى ولاستخلاص الدروس المستفادة منه: أحد هذين الاتجاهين يحذّر من الكلفة الباهظة لاستمرار الأمور على ما هي عليه ويخشى من انعكاس ذلك على ضعف أوروبا وانعدام الأمن فيها وهذا الاتجاه في جوهره ألماني وإلى حد ما فرنسي. أما الاتجاه الآخر والذي هو في جوهره أميركي فله قراءة مختلفة تماماً واستنتاجات مغايرة. ولعل أفصح وأهم تعبير عن هذا التوجه الأميركي قد صدر في (الناشنال إنترست) National Interest بتاريخ 11/11 بعنوان: «التحالف الأوروبي الأميركي: إذا تفرقنا نسقط». هذا النص يعتبر نهوض الصين التقني والعسكري وقدرتها على غزو أسواق عالمية تحدياً أمنياً وجودياً للغرب وأنه من الخطر بمكان تجاهل أهمية التحالف الأوروبي الأميركي لأي سبب كان. ويعترف المقال أننا نعيش في عولمة متعددة وأن الأقطاب المتعددة في العالم لم تتغير وكذلك التحالفات، وأن التعددية ستستمر ولكن ستظهر أكثر من خلال التكتلات الإقليمية وليس من خلال الممارسات التعددية البحتة.
بناء على هذه القراءة لتوجهات العالم المستقبلية فإن توجهاً يتم العمل عليه في الغرب وهو الحفاظ على التحالف الأوروبي الأميركي –عبر الأطلسي- بأي ثمن وعدم الاعتماد على أي بلد أو فريق آخر وطمس الخلافات مهما بدت حيوية اقتصادياً، ويعتبر هذا الفريق أن اعتماد أوروبا على الغاز الروسي قد برهن أنه يلحق الضرر بالمصالح الغربية. ربما من هذا المنطلق تسعى اليوم الولايات المتحدة جاهدة وبمناورات مختلفة لتشكيل كتلة إقليمية في المحيط الهادئ من اليابان وكوريا الجنوبية ودول أخرى يمكن أن تلحق بتكتل محيط بالصين يضمن امتداد النفوذ الغربي قرب الصين ومنع تحركات الصين بحريّة في محيطها أو العالم.
بالتوازي مع هذا المسار اتخذت الولايات المتحدة خطوات غير مسبوقة للتقارب مع الصين أو لمقاربة الخلافات بينهما والتفاهم على احترام الخطوط الحمر على الأقل في هذه المرحلة. ومن هنا فإن اجتماع بايدن مع شي جينبنغ قد استمر ثلاث ساعات ونصف الساعة وانتهى بالاتفاق على أن المسؤولين في البلدين سوف يعقدون اجتماعاتهم المتخصصة لمناقشة التفاصيل في الملفات المختلفة بين القوتين العظميين. ولعل أهم رسالة من هذا اللقاء كانت موجهة إلى روسيا في هذه المرحلة الصعبة، وأن إستراتيجية الولايات المتحدة تتلخص في هذا المجال في منع ولادة تحالف صيني-روسي حقيقي يشكل كتلة إقليمية في وجه الغرب والدول التي تسير في ركبه، ولذلك ربما تمّ إبراز تصريح بايدن الأهم بالنسبة للصين وهو أن الولايات المتحدة ترفض أي تغيير أحادي الجانب لسياسة الصين الواحدة. وفي الوقت نفسه تمّ التركيز على أن كلا الحزبين في الولايات المتحدة قد وافقا على منح أوكرانيا عشرين مليار دولار مساعدة من أجل استمرار حربها مع روسيا، وبذلك بلغت المساعدات الغربية لأوكرانيا 98 مليار دولار لحد الآن، وضحية هذه الحرب طبعاً الشعب الأوكراني قتلاً ودماراً لمدنه وتهجيراً كما عمل الغرب بالعراق وليبيا وسورية خدمة لمصالحه باستنزاف روسيا.
من ناحية أخرى فإن الرئيس الصيني شي جينبنغ قد ركّز على مواجهة التحديات العالمية القائمة من خلال تبني رؤية «مجتمع واحد ومصير مشترك للبشرية والدعوة إلى السلام والتنمية والتعاون المربح للجميع. « وردّ على تركيز الغرب على التكتلات الإقليمية بالقول: «إن رسم الخطوط الإيديولوجية أو تعزيز الجماعات السياسية ومواجهة الكتل لن يؤدي إلا إلى تقسيم العالم وإعاقة التنمية العالمية والتقدم البشري» واستشهد بالمثل الإندونيسي: «ينمو قصب السكر والليمونة بتجمعات كثيفة» وحذّر شي وبحزم من تسييس مشاكل الغذاء والطاقة وتحويلها إلى أدوات وأسلحة معبّراً في الوقت ذاته عن معارضته لسياسة العقوبات الغربية وطالب برفع القيود المفروضة على التعاون العلمي والتكنولوجي ذي الصلة.
ولعل الصين كانت الرابح الأكبر في قمة العشرين. ففي الوقت الذي عبّر الرئيس الصيني عن أن العولمة الاقتصادية تواجه رياحاً معاكسة وأن الاقتصاد العالمي معرّض لخطر الركود عبر لقاء بالرئيس الفرنسي ورئيس وزراء كندا، بالإضافة إلى لقائه مع بايدن طبعاً، لقد كان جليّاً أن الجميع بدأ يحسب حساباً للصين وأن للصين دوراً فاعلاً اليوم في القضايا العالمية الاقتصادية والسياسية ولا يمكن لأحد أن يتجاهل أو يهمل ما يصدر عن الصين. بل إن الرئيس الصيني ذهب إلى أبعد من ذلك في لقائه مع رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو حين قال له: « كل شيء ناقشناه تم تسريبه إلى الصحف. وهذا غير ملائم وهذه ليست الطريقة التي أجريت بها محادثاتنا، أليس كذلك». وأضاف شي: «إذا كنت مخلصاً فيجب أن نتواصل باحترام متبادل. وإذا لم يكن كذلك فلست متأكداً تماماً حول كيف ستتحول الأمور».
ومن الملاحظ أن الرئيس شي جينبنغ ينهل من التراث ومن العادات والأمثال والتقاليد الحضارية فهو في العادة يستخدم الأمثال الصينية في خطبه وكونه في إندونيسيا فقد استخدم مثلاً إندونيسياً. وكل من يحترم التصرف الاجتماعي النبيل يوافق على ما قاله شي لترودو مع أن التسريب ممارسة غربية متّبعة في كل زمان ومكان ولم يسبق أن أشار أحد إليها بهذه الجدية والنقد اللاذع وعلى هذا المستوى.
إذاً ندخل اليوم مرحلة تعنى الصين فيها بكل التفاصيل، حتى السلوكية السياسية، لتقول إننا ندخل اليوم عالماً جديداً وبقواعد جديدة وعلى الجميع أن يفهم ذلك ويأخذه بالحسبان. بقي أن نقول إن تركيز الغرب اليوم على التمسك بكتله الإقليمية متزامنة مع محاولاته الرامية لتفتيت التكتلات الإقليمية الأخرى، سواء في الشرق الأوسط: مثلاً بتفتيت الجامعة العربية وشل مؤسساتها عبر استهداف سورية واليمن والعراق وليبيا، أو في رابطة الدول المستقلة: إثارة القلاقل بين أرمينيا وأذربيجان وبين طاجكستان وقرغيزستان، وهذا جدير بالدراسة والاهتمام والعمل على تقويض خطط الغرب وخلق تكتلات إقليمية وازنة تلعب دوراً أساسياً في توجهات العالم المستقبلية.
يتضح من كل هذا أن الغرب الاستعماري الذي اعتاد على شن الحروب ونهب الشعوب يكرّر سياساته الدموية مرة أخرى في أوروبا عبر دعم أوكرانيا بالمرتزقة والمال والسلاح في محاولة مستميتة منه لمنع انتصار روسي يؤدي إلى قيامها كقطب عالمي، هذا بالإضافة إلى أن الغرب يعمل على محاور وجبهات سياسية أخرى يحاول من خلالها أن يمسك بهيمنته وقدرته على سلب ثروات الشعوب الأخرى، وكذلك فرض سطوته على قرارها السياسي كما يفعل مع دول أوروبا وبعض الدول العربية. لا شك أن الخطوة الأولى للتحرّر من هذه السطوة يجب أن تبدأ بفهم إستراتيجية وخطوات من يستهدف بلداننا وشعوبنا ومستقبلنا والرد عليها بفكر نيّر وأدوات تحاكي أدوات الخصوم ذكاءً وحنكةً وإن لم تمتلك المقدرات نفسها بعد.
بقلم: أ. د. بثينة شعبان
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا