سورية الحدث الإخبارية-السويداء- معين حمد العماطوري
يشكل العمل التوثيقي تميزاً في أسلوب وطريقة التدوين التاريخي لنقل الحدث في لحظة الاسناد الزمني الموافق للحدث، وذلك من خلال استخدام الوثيقة، والتي تعتبر السلاح الأبيض الذي ينتصر به بقوة وشجاعة بمقدار وثوقية تلك الوثيقة ومصداقيتها، حيث تعمل على اشغال الباحث في البحث والتنقيب عنها، لا بل يعمل عبرها المقاربة والمقارنة بالزمان والمكان وينفض غبار الزمن عن الأحاديث وبطون المراجع ليصل لتقاطع المعلومات نحو وثيقة حاملة الحدث بواقعية، ولعمري هذا الجهد والتعب يحتاج إلى وقت كبير ومعاناة في أساليب البحث وخاصة إذا كانت المكان المدروس بعيداً عن مكان الدارس آلاف الكيلومترات، فهذا يتطلب جهداً إضافياً ودقة في التوصل للغاية المنشودة.
لعل ما قدمه الباحث المهندس سميح متعب الجباعي في كتابه /ذاكرة الثورة 1920-1939 المجاهد متعب الجباعي/ يحمل دلالة متنوعة من جهد كاتب أراد اظهار دور الابطال الاحرار بوثائق ناشراً الدور الهام الذي قاموا به لإغناء محتوى الثورة المواكب لأحداثها الإعلام القومي الدال أنها ثورة تحمل أبعاداً وطنية وثقافية وفكرية قومية... ولهذا استطاع الباحث المهندس سميح متعب الجباعي الحصول على وثيقة ويضعها ضمن السياق التاريخي للنص المكتوب في كتابه ذاكرة الثورة حيث يذكر في الفصل الخامس من الجزء الأول وتحت عنوان: "مصائب الانتداب بقلم الكاتب فؤاد سليم وثيقة رقم(110625-1)" ما يلي:
كتب القائم مقام فؤاد بك سليم في جريدة الشّورى المصريّة العدد 34 في حزيران 1925م:
"أذكر أنّ صديقاً قال لي في حديث عن أحوال سوريّا السّياسيّة: لماذا تساوي بين الإنكليز والفرنسيّين في نفورك من سياسة الدّولتين في سوريّة حال كون الإنكليز أشدّ خطرًا من الفرنسيّين وأسوأ منهم نيّةً؟
فأجبته: إنّ مجرّد اتّفاق الدّولتين على قسمة سوريّة إلى شِقّتَيّ انتداب هو جناية لا يمكن لسوريّ فيه مسحَة من العقل وفضلة من الشّعور أن يغتفرها لهما، وهما في ذلك متساويتان في المسؤوليّة التاريخيّة، أما قولك أنّ الإنكليز أشدّ خطرًا فمعقول، إذا قصرنا النّظر على المقابلة بين قوّة الدّولتين ومقدرتهما على الثّبات في البلاد، غير أنّ الخطر قد يأتي أيضًا من جانب الضّعيف، فتكون أضعف الدّولتين أشدّهما خطراً، ذلك أنّها تدخل إلى البلاد بتأثير وجودها وسيطرتها وعوامل الضّعف التّي تعاني منه هي نفسها، بما في ذلك عللها وأمراضها الاجتماعيّة. أفلا ترى أنّ فرنسا بعد أن غزتنا بخيلها ورجالها جاءت تغزونا غزواً بجيشٍ من إناثها المبتذلات! وإن لم نقل شيئاً عن محاربتها في البلاد، وبثّها سموم التّفرقة، وبذرها بذور الشّحناء بين الطّوائف، أنسكت أيضاً عن هذه المئات بل الألوف من "تاجرات الليل" اللاتي تتحفنا بهنّ أسواق مدننا، ومدينتنا لقبها "أم الحريّة"، ونكيل لها ألقاب التّبجيل جزافاً؟ فلو وقفنا ساعة نرى ماذا فعلت بنا حريّتها هذه؟ وإلى أين تسير بأخلاق شبابنا هذه الأمّ الحنون؟ إنّ الذين يعرفون مصرَ قبل الحرب ثمّ جاؤوا هذه الأيام يُدهشون من كثرة الفرنسيّات المحترفات مهنة "القنص والصّيد" في شوارع القاهرة الكبرى، ومصر -كما تعلم - لا يسيطر عليها الفرنسيّون، فما بالك ببلاد يديرون فيها دفّةَ الحكم، ويعدّونها بقرتهم الحلوب!". هذا ما قلته لصديقي، أعيده الآن وأنا أعجب من تجنّب الكتّاب والمنشغلين بسياسة البلاد البحث في هذا الأمر، مع أنّه لا يقلّ خطورة عن غيره من المخاطر التّي ينبّهون الشّعب إليها، ويستنهضون همّته لدفعها وكفاحها. إنّ أعظمَ مصيبةٍ مُني بها شعب هي مصيبة السّوريين بانتداب الإنكليز والفرنسيّين، ولا أحسب أنّني أجنح إلى الغلوّ إذا قلت أن قضيّة، "قتلِ البلاد أخلاقيّاّ وتاريخيّاً" هي أعقد وأصعب قضيّة وطنيّة في هذا الشّرق، فسوريّة - بما فيها فلسطين ولبنان - بلاد لا يزيد عدد نفوسها عن نفوس عاصمة الفرنسيّين، ولعلّه أقلّ من عدد سكان مديريّتين من مديريّات مصر، وهي ليست بذات ثروة تذكر، ومع ذلك فإنّها تقاوم دولتين رابضتين في وسطها، وثالثة تشرف عليها من الشّمال، لا يمنعها من الوثوب إلاّ أحوال معيّنة مؤقّتة، ثم إنّ الدولتين المحتلّتين تصليانها من الدّاخل حرباً عواناً، وتأتيانها بما تشاء الضّمائر الميّتة والمروءة الكاذبة من حثالات الأجناس الغربية، وتروضان لهذه الشّراذم الطّفيليّة ما صعب من مراس الوطنيّين، وتنزلانها حيث تستمرِئ ما تمتصّه من دماء البلاد، وتهنأ بما تلتهمه من خيراتها وموارد رزقها. وهاتان الدّولتان تسعيان فوق هذا إلى إهلاك البلاد اقتصاديّاً وسياسيّاً، وإلى قتلها لو تطيقان أخلاقيّاً وتاريخيّاً، إذ يزعم عملاؤها أنّ السّوريون يضمّون من شتى الشّعوب، وبقايا لا تتآلف ولا تنسجم في وحدة وطنيّة، وإنّ خير ما يفعله هذا الانتداب لمصلحة البلاد أن يفرّق ويقسّم ويبدّد ما شاءت النيّة السّيّئة وشاء الحقد الدّفين أن يفعلَ. على أنّ هذا كلّه لم يكن ليخفّف لولا أنّه تمهيدٌ لقتل شخصيّة الأمّة، وترويضها للسّطو فريسةً منهكةَ القوى أمام السّيل الجارف من مساوئ الحضارة الغربيّة، إذ نحن لا نخرج عن كوننا في حالة تطوّرٍ اجتماعيٍّ نستقبل فيه هذه الحضارة بما فيها من خير وشرٍّ، فإذا كنّا على تماسك وقوّة، وكان لنا من ذلك نصيب من الشّعور بالشّخصيّة الوطنيّة والمسؤوليّة التّاريخيّة استطعنا أن نتخيّر ما يصلح لنا، وأن ندع ما لا يوافق غرائزنا وتقاليدنا، وإلاّ فنحن مرغمون على أن نقبل ما تتحفنا به أسواق باريس ونوادي موسكو من المفاسد والشّرور، وكلّما ازداد تباعدنا وتعدّدت ميولنا ازداد استعدادنا لهذا السّقوط، وتغلغل فينا الضّعف عن مقاومة هذه الطّوارئ الضّارة، وليس فينا من يدّعي أنّنا على خلقٍ أرقى من أخلاق الشّعوب الغربيّة، ولكنْ لكلِّ شعب من شعوب الأرض فضائله ومساوئه الخاصّة، وحسبنا ما عندنا من العيوب والآفات، فلا نرغب بأن يُضافَ إليها شيءٌ جديد".
أخيراً لاحظنا مدى المصداقية في ذكر رقم الوثيقة والوسيلة الإعلامية التي خاطب بها الكاتب فؤاد سليم صديقه، وبدورنا أردنا وضع جزء من هذه الوثيقة على أن يتم نشر القسم الآخر منها في العدد القادم لما لها من أهمية وهي عن لسان مجاهد الكاتب فؤاد سليم والذي عرف عنه من القادة الأحرار الذين ساهموا في الثورة السورية الكبرى بنضاله وجهاده القويم، وهنا أرغب بالتنويه أن جمال مصداقية كتاب /ذاكرة الثورة 1920-1939 المجاهد متعب الجباعي/ للباحث المهندس سميح متعب الجباعي تكمن في تدوين الوثائق التي حصل عليها وقدمها للدارسين والمهتمين والراغبين بمعرفة أحداث الثورة السورية الكبرى، وبالتالي فإننا قسمنا هذه الوثيقة الموجودة بالكتاب والراغب قراءتها لابد له العودة الى الكتاب لقراءته واكتساب المعلومات الهامة الواردة في تلك الوثيقة والواردة عن لسان رجل معاصر وكاتب، ما دفعنا إلى نشر الوثيقة لقسمين حباً بالتمعن والتشويق لمعرفة المزيد في القادم منها... لأن للحديث تتمة....
يسرنا انضمامكم لقناتنا على تيلغرام : انقر هنا